العدد 899 - الأحد 20 فبراير 2005م الموافق 11 محرم 1426هـ

الرأي والرأي الآخر في المسار التربوي

علي الغسرة comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في المسار التربوي لا يوجد ما يشبه الإجماع على قضية معينة إلا فيما تم التعارف عليه أنه من الثوابت التي يسعى الكل إلى إيجاد افضل السبل لتحقيقها مثل تعليم الجميع، ولعل ما أشرنا إليه في مقالنا السابق يأتي ضمن هذا السياق المنهجي الذي يتم به تداول القضايا التربوية. فالشأن التربوي تتداخل فيه مجموعة من المكونات الثقافية والسياسية والعلمية ولذلك تتعدد الاجتهادات وتتباين النظريات والمقولات وبالتالي يمكن القول إن أحكامنا في الساحة التربوية تبقى رهينة المعتقدات والأفكار التي تعبر عن ذاتنا والتي نصادق علميا عليها بما هو مقبول عند أهل الحل والعقد في الجانب التخصصي. وهذا بدوره يؤكد أهمية وحيوية وجود الرأي المضاد لما ندعيه لأن في ذلك إجلالا للحقيقة وتعظيما لعقولنا حتى لا نسقط في شرك التبعية العمياء كما جاء في قول الإمام علي عليه السلام: "وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع مكل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم فيهتدوا ولم يلجأوا إلى ركن وثيق فينجوا".

وبصورة عامة نعاني في عالمنا العربي الكثير من قطبية الرأي الواحد، إذ إن النظام التربوي الرسمي يمنح نفسه الحق المطلق في تثبيت ما يريده من أجندة سياسية للتعليم ويتجاوز بذلك المنهجية العلمية التي تقتضي التجريب وإثارة الأسئلة وتقديم الأدلة على مشروعية ما يقول به، ولقد أوقع النظام التربوي الرسمي نفسه في إشكالية قانونية، وسياسية وعلمية حينما أسس بنيانه على المركزية كأفضل السبل لحفظ حق التعلم للجميع وضمان جودة مخرجات هذا التعليم. فالجانب القانوني يتعلق بأصل هذا الحق فمادام الأمر يتعلق بالناس وتقديم خدمات لهم وليس مقاضاتهم فلماذا تترك المشورة عملا بقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" أما الجانب السياسي للمسألة فهي التناقض الموجود بين قولنا بأننا مجتمع ديمقراطي وعملنا على مصادرة حق الآخرين في التعبير عن آرائهم بل ومحاسبتهم على ما يقولون وخصوصا إذا كان هذا الكلام يزعجنا! وأخيرا يبقى الجانب العلمي مغبونا في أية قضية تربوية مادام الرأي المضاد مصادرا ولا تترك له المساحة المطلوبة لكي يثبت مزاعمه إن كانت حقا أخذنا بها أو باطلا تركناها.

إن التعامل مع الشأن التربوي، كأنه منطقة محرمة لا يجوز للعامة أن تدخل فيها، هو تفريط في حق الأمة، والأمة بمجموعها معنية بهذا الشأن لأن ذلك الأمر يرتبط بمصيرها ومصير فلذات أكبادها على المستويين المحلي والعالمي، وماذا تنتظر أمة إذا انخفضت تطلعاتها ورضيت بتعليم لا يحرك الهمم ولا يقدح الأفكار بل يؤصل فيها ثقافة التبعية والخضوع؟ والرأي الواحد يولد الاستبداد شئنا أم أبينا فالزاوية التي ينظر الفرد الواحد منها تمثل قدرا محدودا من الحقيقة أو ربما تمثل مصلحة شخصية تصادر حق الآخرين وفي ذلك خطر داهم يتهدد حياتنا كأمة أشرقت فيها نور النبوات وأمر فيها الخاتم "ص" أن يزكي أفرادها ويعلمهم الكتاب والحكمة ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العقل وبصائره.

من هذا المنطلق يبقى لحرية الكلمة دورها في تصويب العجز أو النقص الذي يعاني منه النظام التقليدي في التربية ومساعدته على تنشيط قدراته الايجابية لكي يتحرك من جديد برؤية أكثر تقدمية نحو الحق والحقيقة.

فالرأي والرأي الآخر في عالم التربية هما وجهان لعملة واحدة هي البحث عن الحقيقة والبدائل الأفضل للعمل التربوي، وما قد يروج له البعض أن هناك سباقا محموما بين ندين متنافسين هو في الحقيقة خلق للمبررات لكي تبقى الأمور على ما عليه من دون المساس بمصالح المنتفعين من الوضع الراهن.

وتشتد اليوم الحاجة إلى إعادة النظر في كثير من المسلمات التي تعارفنا عليها في التعليم والتربية، ويشمل ذلك البرامج الخاصة بإعداد المعلمين والإدارة المدرسية والمتخصصين في الشئون التعليمية والمناهج والتدريب فلم يعد مقبولا أن لا نستمر في استنساخ الماضي ونظرياته ومقولاته بأشكال جذابة من دون الجرأة على التغيير ورفض مضمونه! والتغيير سنة من سنن الحياة التي لا يقف لمقاومتها إلا أصحاب المصالح والمنتفعين من وضعية اجتماعية أو سياسية معينة، وهل كان بامكان المجهود البشري في بنائه للحضارات عبر التاريخ أن يصل إلى ما وصل إليه لولا وجود تلك الفئات المؤمنة بغد أفضل للإنسان وقيمة أكبر مما يروج له التقليديون المحافظون "... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" "البقرة/ 251".

والحياة في حقيقتها صراع بين مجموعتين من البشر، مجموعة تريد أن تستمر في السير إلى الخلف بمنطق المصالح العامة وحفظ النظام ومجموعة بالمقابل تريد أن تنطلق إلى المستقبل بحلم الإنسان وآماله، والمواجهة حتمية بين هاتين المجموعتين كما أشارت الآية الكريمة وأكدته وقائع تاريخ الاكتشافات العلمية وتطور النظم السياسية والاجتماعية والمذاهب الفكرية. والنظام التربوي ليس استثناء من هذا القانون العام الذي أودعه الله سبحانه وتعالى بقدرته في هذا الكون بل هو أحد المظاهر البارزة لتجلي المشيئة الإلهية في ابراز قدرات الإنسان الخلاقة التي أصبح بفضلها خليفة في هذه الأرض - يسهم في تطوير الحياة ويفجر طاقاته الإبداعية - فكان ما كان من هذا التنوع والتشعب في الأفكار والنظريات التربوية والعلمية عن سلوك الإنسان وعقله وعواطفه وقيمه وطرائق تعلمه.

ونحن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ألا يحق لنا أن نطالب بتكسير الأصنام القديمة من نظريات التعليم والتعلم والتنظيم الإداري، وأن نتحرك في الفضاء الرحب للبحث عن أفكار جديدة تمدنا بالعزم والأمل وتطور من قدراتنا الذاتية في سبيل مواجهة التحديات الحضارية والثقافية الراهنة. فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن نستمر فيما هو عليه من أعراف وتقاليد توارثناها في التربية والتعليم وأصبحت كمسمار جحا نبرر به أخطاءنا، أو نأخذ بالمنهجية العلمية في التغيير بعد دراسة فاحصة لواقعنا والتقدم بيسر نحو تحقيق طموحاتنا وأهدافنا الكبيرة من دون خلق زوبعة في فنجان!

وأولى التحديات التي نواجهنا هي: الطابع التقليدي الذي يطال معظم قضايانا التربوية فمناهجنا التعليمية وأبحاثنا التربوية تعزز دور التعليم التلقيني وتنفي الحوار وتعدد وجهات النظر، فما يقدم ضمن المنهج المدرسي وما يتم تدريسه في الغالب يسير في الاتجاه نفسه وهو سيطرة النمط السلبي للمتعلم وتدني المستوى الفكري المتعمق للمادة الدراسية.

ويعزز ذلك - لدى الطلبة - على المدى البعيد فكرة الامتثال والخضوع للحقائق والمفاهيم الدراسية كأنها الحقيقة بعينها وتكتمل حلقات الاستلاب الفكري حين يقوم الطالب بنفسه بترديد ما يسمعه ويقرأه في الاختبارات من دون مناقشة أو اعتراض، وبالمنوال نفسه تستمر سنوات الإعداد والتأهيل للهيئات التعليمية والإدارية من دون التعمق في القضايا الثقافية والسياسية والاجتماعية لمهنة التدريس بعد أن استسلمنا بالكامل للمسلمات التربوية التي يطرحها النموذج الفني الاجرائي. والملفت للنظر أن نموذج Competency-Based Education "المنهج القائم على نظام الكفايات" لايزال المفضل من بين النماذج الأخرى عند التربويين العرب وأساتذة كليات التربية في إعداد المناهج والبرامج التعليمية على رغم أن هذا النموذج أصبح في ذمة التاريخ منذ القرن الماضي.

وعلاوة على أن هذا النموذج أستورد من الحقل الصناعي وأسبغت عليه صفة العلمية والعقلانية، فهو يصف جانبا واحدا من الحقيقة ويبسطها في صورة منطقية منظمة من العوامل والمؤثرات التعليمية متجاهلا في الوقت ذاته الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية والإنسانية التي تحيط بعمليات التعليم والتعلم في المدرسة. وأوضح Nuthall "1989" أن نتائج أبحاث المدرسة العلمية كانت محدودة الفائدة بالنسبة إلى المعلمين لأنها تعتمد الموضوعية والتجرد عن المشاعر والعواطف الإنسانية كمنهجية في دراساتها في حين أن التدريس نشاط إنساني يتضمن الكثير من الخصوصيات الشخصية، والقيمية، والمحاولات الإبداعية المتنوعة.

وبالاضافة إلى ذلك فإن هذه النتائج تعطي انطباعا خاطئا بأن هناك علاقة سببية مباشرة بين التعليم والتعلم وبأن التدريس هو عمل يمكن إتقانه بواسطة الخبرة والتكرار فقط ويضيف Fenstermacher "1978" أن هذه الأبحاث لا تتضمن مفاهيم أو تبريرات لما يحب تعلمه أو عمله، ولا تتضمن أي رأي بخصوص السلوك الصحيح أو الكمال الأخلاقي، ولا تعطي اهتماما أو تقدم تبريرا من أجل الالتزامات الأخلاقية.

وثاني تلك التحديات هي الثقافة المدرسية السلبية التي هي محصلة لتراكمات مراحل من الاستبداد الثقافي والقمع الفكري تعرضت له الهيئات التعليمية والإدارية في فترات سابقة، وبالتالي فنحن أمام مسئولية كبرى في إعادة الروح لهذه المؤسسة وإسعافها بما يناسبها من أولويات لاسترجاع قدراتها على التجديد والإبداع فتصبح منبرا ثقافيا حرا يتخرج منها أولادنا بزاد علمي ثقافي وأخلاقي يمكنهم من خوض معترك الحياة بكفاءة عالية ويكونون قادرين على الوفاء بمسئولياتهم تجاه دينهم ومجتمعهم. فالثقافة المدرسية - كما تؤكد الابحاث التربوية الحديثة - يجب أن تكون المحور الرئيسي لأي مشروع تربوي جديد سواء ارتبط ذلك بزيادة النتاج التحصيلي أو تحسين الظروف التنظيمية للمؤسسة المدرسية.

وأخيرا تبقى مسألة التفكير الاستراتيجي وهي العنصر المفقود في ثقافتنا التربوية، فالمشروعات متعددة ومتنوعة وتتضارب احيانا في منطلقاتها وأهدافها بل لا تعطي الفترة الزمنية الكافية للتجريب والاختبار لما يسيطر علينا من هاجس للإنجاز الكمي والنجاح السريع، وسرعان ما يفتر هذا الحماس للمشروع وتتلاشى آثاره بغياب اصحابه وتبدأ الدورة من جديد بمشروعات أخرى بديلة من دون أن نقف محاسبين أنفسنا إلى أين وصلنا؟ وماذا كنا نريد؟ وهل تحقق فعلا على أرض الواقع بعض مما كنا نتوقعه؟

وختاما يجب علينا كتربويين أن نتواضع ونتخلى عن لغة الحسم والثقة المتعالية بالمورثات الفكرية في التربية، وأن نبدأ من جديد بروح الباحث المتجرد - بالدرجة التي نتحملها - ونكون منصفين للحقيقة بعيدا عن طموحاتنا الذاتية ونفكر بطريقة مغايرة لما تسالمنا عليه من أعراف وتقاليد، وأن ننظر إلى الإمام فهناك الكثير من البدائل في صوغ المناهج وإعداد المعلمين والتدريس والتعلم، والمستقبل يسير باتجاه المدرسة كمؤسسة تعليمية يتعلم فيها الطالب والمعلم إذ يتم استخدام استراتيجيات متنوعة للتدريس والتعلم ويكون الفضاء مفتوحا للحوار بين الآباء والمعلمين وأساتذة الجامعات والمسئولين للوصول إلى أنسب الصيغ التي تحقق لنا التعليم المثالي الذي ننشده

العدد 899 - الأحد 20 فبراير 2005م الموافق 11 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً