العدد 903 - الخميس 24 فبراير 2005م الموافق 15 محرم 1426هـ

حين التقى الشيخ بالرئيس

ابن سينا... الشيخ/ الرئيس (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

انتقل ابن سينا إلى جرجان. وهناك أقام ثلاث سنوات استعاد خلالها هويته الضائعة بين غياب الأب وخسارة بخارى. في جرجان اتصل الشيخ الرئيس بأبي عبيد الجوزجاني وأبي محمد الشيرازي وارتبط بهما بصداقة عميقة ودائمة وخصوصاً الجوزجاني الذي لم يفارق ابن سينا وكان على اطلاع على خفاياه وأسراره، الأمر الذي أسعفه لاحقاً في استكمال كتابة سيرته.

وفي جرجان نجح الرجل/ الأسطورة في إعادة تنظيم حياته وتحقيق ذاك التوازن المطلوب لتأمين بعض الاستقرار والتفرغ مجدداً للتفكير والتأليف. فأسس مدرسة للتعليم والبحث وأشرف مباشرة على تربية جيل من طلبة العلوم والمعارف. وفي تلك الفترة القصيرة والمستقرة بدأ بتأليف كتابه الذي ستضرب شهرته أوروبا لعدة قرون. بدأ الشيخ الرئيس في كتابة «القانون» وهو الكتاب الذي جمع الطب مع الفلسفة مستخدماً فيه منهج التشريح (الطبي) والتحليل (الفلسفي)، الأمر الذي أعطاه مكانة عالمية وأدخله إلى أرقى جامعات أوروبا في فترة نهوضها الحضاري (العلمي). ألف ابن سينا الكثير من الكتب (زادت على المئة) وتناولت الفلسفة والمنطق وعلم النفس إلا أن كتابه (القانون) هو الألمع، إذ ترجم إلى لغات أوروبية عدة واعتبر حتى زمانه الكتاب الأهم في الطب وعلومه، وبفضله تحول إلى أشهر علماء المسلمين في مجال الطب في القرن الحادي عشر الميلادي.

في هذه الفترة التي ازدهر فيها نشاط ابن سينا في التدريس والتأليف شهد المحيط العربي - الإسلامي تحولات غريبة قادها الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر. فالحاكم آنذاك واصل مشروعه «التوحيدي» الذي تطور من فكرة سياسية يتنافس من خلالها على زعامة بغداد وينازع الخلافة العباسية على زعامة بلاد الشام إلى فكرة عقائدية تطرح بعض التصورات الفلسفية والتأويلية للقرآن الكريم. ففي تلك الفترة وتحديداً في العام 408 هجرية (1018م) وضع ما عرف لاحقاً بالمذهب الدرزي (التوحيدي) وبدأ بإرسال أتباعه إلى الديار الإسلامية لنشره بين المسلمين. وليس مصادفة أن يقود تلك «الدعوة الجديدة» ويشجع الحاكم عليها رجل غير معروف، جاء من بلاد فارس يدعى حمزة بن علي الزوزني. فحمزة يعتبر المنظر الفكري للمذهب التوحيدي فهو استفاد من وجوده في القاهرة وما عرفته آنذاك من ازدهار فكري تمثل في الترجمات للفلسفات الإغريقية والفارسية والهندية على أنواعها. فالقاهرة وتحديداً مكتبة الحكمة كانت نقطة انطلاق لتلك الرسائل التي عرفت برسائل الحكمة نقلها أتباع الدعوة التوحيدية إلى بلاد الشام وغيرها.

وفي بلاد الشام ومصر لعب رجل من بخارى يدعى محمد بن إسماعيل البخاري دوره الخاص في نقل الرسائل وشرحها وتعليم الأتباع أسرارها وما غمض من أفكارها ومعانيها. وليس مصادفة أن يكون محمد بن إسماعيل من بخارى وهي مدينة ابن سينا التي تربى ونشأ فيها ودرس خلالها الفلسفة وتعرف في ظل والده (رجل الدولة) على الكثير من أتباعها وخصوصاً تلك التيارات التي كانت على صلة بالحركة الإسماعيلية والدعوة الفاطمية.

من بخارى إذاً جاءت تلك الأفكار التوحيدية التي مزجت بين الدين والفلسفة وغيرها من معتقدات غنوصية وهندية وفارسية وإغريقية. ومن تلك المدينة التي انهارت، بعد اقتحام الدولة الغزنوية، أسوارها خرج الكثير من المفكرين والحالمين بحثاً عن ملاذ آمن يستقرون فيه ويتحدثون عن تطلعاتهم من دون رقابة أو ملاحقة. ومصر في العصر الفاطمي كانت من تلك المناطق التي تتحمل الكثير من التأويلات والتفسيرات من دون مخاوف أو ضغوط. محمد بن إسماعيل اختار مصر ليقول وينشر ما عنده، بينما ابن سينا لم يغادر بلاد فارس في حياته حتى أنه لم يتحمس لزيارة بغداد عاصمة الخلافة العباسية.

في تلك الفترة (فترة بدء نشر المذهب الدرزي التوحيدي في عهد الحاكم) أخذ عود الدولة الغزنوية يشتد وبدأت أطراف حدودها السياسية تتسع شمالاً وشرقاً. ففي ذاك العام (408 هجرية) توغلت الفتوحات الإسلامية بقيادة الدولة الغزنوية في مناطق آسيا الوسطى والبنجاب وكشمير لتؤسس دولة مسلمة سيكون لها شأنها الكبير في تلك الدائرة الاستراتيجية في العالم القديم في وقت كانت القاهرة تنازع بغداد على زعامة بلاد الشام.

التنافس على القيادة أضعف بغداد وأثار السخط على الحاكم وشجع الكثير من الولاة في الأقاليم على التمرد والتفكير في الاستقلال عن المركز العباسي. وبسبب ذاك التنافس المحموم الذي اختلطت فيه السياسة بالايديولوجيا (العقائد) اضطرب وضع مدينة جرجان وأخذ موقع ابن سينا يتزعزع. فالشيخ/ الرئيس الذي بحث عن مكان آمن للتدريس والتأليف وجد نفسه من جديد ضحية وضع مأزوم بسبب التنافس وتزاحم الأمراء على الاستقلال بعيداً عن رقابة المركز (بغداد).

شعر ابن سينا بعدم الاطمئنان في مدينة دخلها الاضطراب فقرر الرحيل مجدداً بحثاً عن مكان آمن فذهب إلى الري. وهناك استقر بعض الوقت إلا أن المكان لم يكن أفضل من السابق فقرر الرحيل من جديد وتوجه إلى همذان ليقيم فيها تسع سنوات. وما كاد يصل الشيخ/ الرئيس إلى مدينته الجديدة حتى وصلت الأنباء من مصر تتحدث تارة عن مقتل الحاكم وطوراً عن اختفاء ذاك الرجل الغريب الأطوار.

في العام 411 هجرية (1020م) قتل/ اختفى الحاكم الفاطمي في ظروف غامضة أعطت أتباعه فرصة أخرى لتأويل وقائعها وتحميلها تلك المضامين الغرائبية. فأتباعه يرفضون فرضية القتل ويعتقدون حتى الآن أنه رفع أو غاب وينتظرون عودته. فالحاكم أعطي بعد غيابه/ مقتله صفات ألوهية وأغدقت عليه وعلى سلوكه وسيرته تفسيرات كثيرة كانت أكبر من قدرة الدولة الفاطمية على تحمل تبعاتها ونتائجها السياسية والعقائدية. وبسبب ذاك الضغط النفسي اضطر خليفته ابنه الظاهر إلى إلغاء معظم قراراته. فالظاهر عاكس سيرة والده الحاكم إذ تراجع عن كل تلك المخالفات أو تلك القوانين التي عاكست المألوف من العادات. كذلك - وهذا أهم ما فعله الظاهر - أنه اعتذر من الأقليات (أهل الكتاب) وأعاد بناء كنيسة القيامة في القدس وأسقط الذريعة التي أخذت الممالك الأوروبية تستغلها لتجييش المشاعر والتحريض على الإسلام والمسلمين. وأدت سياسة الظاهر الحكيمة إلى عودة الاستقرار في مصر واستعادة بلاد الشام بعض الهدوء الذي فقدته في فترة التنافس على الزعامة مع الخلافة العباسية في بغداد.

آنذاك كان الشيخ/ الرئيس يرتب أغراضه وكتبه في همذان وهي المدينة التي سيشهد فيها ابن سينا بروزه من جديد في عالم السياسة. ففي همذان سيدخل هذا الرجل/ الأسطورة، تلك المرحلة التي فقدها في رحاله وترحاله وكان تعرف على طعمها وعرف لذتها حين تولى والده شئون الوزارة في بخارى. وفي همذان سيكرر التاريخ نفسه ويعود الأب في صورة الابن. فالابن الآن سيدخل طور الوزارة من خلال اتصالاته وعلاقاته ومجاملاته مع أميرها شمس الدولة. فأمير همذان لن يتأخر كثيراً في اكتشاف مواهب ابن سينا وعبقرية ذاك الشيخ وغناه الفريد من نوعه في الطب والفلسفة وعشق المعرفة وطلب الملذات. فالشيخ الآن وفي عهد شمس الدولة سيتولى أمر الوزارة وسيتقرب منه جاعلاً من نفسه أحد ندماء الأمير.

في همذان دخل ابن سينا عالم السياسة من بابها الواسع وسيصبح الشيخ من الآن الشيخ/ الرئيس. إلا أن نعمة الوزارة ستنقلب عليه وتتحول تلك السعادة المرجوة إلى سعادة مفقودة. فالزمن تطابقت عقاربه بين الأب والابن في لحظات. وفي لحظات أخرى سيفترق من جديد ذاك التطابق في العقارب فيواصل الابن ذهابه إلى جهة تاركاً الأب في مكانه. فالسياسة لا تعني دائماً الاستقرار في الإدارة وإنما ازدياد الحسد والغيرة والتضارب على المواقع. وهذا ما سيشهده الشيخ/ الرئيس في تلك اللحظات المضطربة في تاريخ همذان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 903 - الخميس 24 فبراير 2005م الموافق 15 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً