العدد 915 - الثلثاء 08 مارس 2005م الموافق 27 محرم 1426هـ

حرية انتهاك السيادة و..."اللعب في النخاع"!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

خطر على بالي في البداية، "اللعب في النخاع"، عنوانا لهذا المقال، وهو ليس اسما لمسرحية فكاهية، أو عنوانا على الهزل في وقت الجد. ..

بل هو عنوان صادق لما يجري من اختراقات أجنبية في عمق أعماقنا، من دون مقاومة حقيقية من جانبنا، وهو اسم على ما يسمى عن عصر الحرية المطلقة لهم من دون أن تكون لنا، حريتهم في اللعب في الدماغ أو في النخاع، مقابل حريتنا نحن في القبول و"الانصياع" تلك الكلمة التي صارت هي الأشهر في القاموس السياسي والإعلامي الأميركي، تترجم عادة بمعنى القبول بما تفرضه السياسة الأميركية على الآخرين من دون مناقشة أو ممانعة... بل بانصياع كامل وخضوع ذليل...

وأحسب أن كثيرا مما يجري في عالمنا هذه الأيام، هو النموذج الأهم لانصياعنا للقرار والسياسة والأمر الأميركي من دون جدال، فلا جدال في الأمر، وإلا حقت العقوبة القاسية أو على الأقل التخويف بها!

ولعلكم تلاحظون أن أميركا الامبراطورية المنفلتة، تطبق علينا ومعنا نوعين من المعاملة، النوع الأول هو استخدام القوة العسكرية الباطشة للإخضاع، كما هو الحال في العراق على أيدي جنودها، وفي فلسطين على أيدي حلفائها، وربما غدا في سورية ولبنان، لفرض إرادتها من دون مقاومة، وعلى رغم ورطتها الكبرى في "المستنقع العراقي" واستنزافها على أيدي المقاومة العراقية، فإنها قد تنكر غدا في معاودة الأسلوب ذاته في لبنان لقمع سورية وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية الموجودة هناك.

وهاكم ترون رأي العين، كيف يتنادى العربان قاطبة للانصياع في وحدة غير مسبوقة، للضغط على المقاومة العراقية بكل تصنيفاتها، لكي توقف مقاومتها المسلحة، بحجة عدم التكافؤ على الآلة العسكرية الأميركية الجبارة المسنودة عالميا، في حين بدأ الأميركيون المجاهرة بالبحث عن الوسيلة الأسلم والأسرع للخروج من هذا المستنقع الدامي، الذي لم يكونوا يتصورون وعورته وصعوبته!

ثم هاكم تلاحظون - مرة أخرى - كيف يجري الحال في الساحة السورية اللبنانية، لتوفير غطاء عربي، لانسحاب سورية من لبنان فورا، بحجة توفيت الفرصة على الرغبة الأميركية الفرنسية، ربما بالمغامرة العسكرية هناك... أما المقاومة اللبنانية والفلسطينية، فاتركوا أمرها لغيرنا... المهم هو الانصياع للإرادة الأميركية قبل فوات الأوان! وقد حدث وجرى الانصياع!

لن يفاجأ أحد غدا، حين يرى هذا السيناريو وقد تم إنتاجه وإخراجه وتمثيله عربيا في الظاهر، وأميركيا في الحقيقة... هل تنتظرون معي حتى موعد القمة العربية المقبلة بعد نحو ثلاثة أسابيع لنعرف الحقيقة؟!

أما النوع الثاني من المعاملة الأميركية معنا، فهو الأخف شكلا وإن ظل هو الأخطر فعلا، ونعني التسلل إلى شرايينا واختراق أعماقنا وانتهاك سيادة دولنا جهارا نهارا، بل بمباركة من حكوماتنا الرشيدة... وأمامنا عشرات بل مئات الأدلة والنماذج.

لكنني سأختار لكم الأحدث من هذه النماذج... فقد نبهتني قبل أيام قلائل، قاضية مرموقة عميقة الحس الوطني والقومي، إلى أنها تلقت دعوة مشبوهة من هيئة قانونية أميركية، لحضور مؤتمر انعقد فعلا في البحر الميت بالأردن، يومي 17 - 18 فبراير/ شباط ،2005 بإشراف وتمويل وتنظيم "مبادرة الشراكة على الشرق الأوسط" التي سبق أن أعلنتها الإدارة الأميركية في العام الماضي، بهدف فرض الإصلاح على حكومات المنطقة وفق المفهوم الغربي.

وعلى رغم أن القاضية المعنية رفضت الدعوة بمبادرة شخصية منها، فإن غيرها كثيرات ذهبن وحضرن المؤتمر، قاضيات ومحاميات وقانونيات عربيات من مختلف الدول، وبعد يومين خرج المؤتمر بما أرادته المنظمة الأميركية، وهو إنشاء "الشبكة القانونية للنساء العربيات"، فروعها في البلاد العربية وجذورها وأصولها مربوطة في واشنطن، عضواتها عربيات، وعقولها أميركيات صاحبات الفكرة والمؤتمر والتنظيم والتمويل والإغراء، والهدف صريح هو اختراق النخبة في سلك القضاء والمحاماة والقانون، وخصوصا عبر النساء العاملات فيه، بحجة مساعدتهن في مواجهة المشكلات والضغوط!

وعلى رغم أن الهيئة الأميركية صاحبة الفكرة والمؤتمر، ادعت في البدء أنها هيئة نقابية قانونية أهلية وغير حكومية، تريد مساعدة "القاضيات والمحاميات العربيات"، فإن أوراق مؤتمرها وصيغة دعوتها، تعترف صراحة بأن هذا النشاط هو جزء من مبادرة الشراكة الحكومية الأميركية، وبصرف النظر عن هذا الاعتراف المتناقض، فإن ما يهمنا هو أن سياسة "اللعب في الدماغ حتى النخاع" الأميركية، الحكومية وغير الحكومية، تشق طريقها في مجتمعاتنا بأسهل السبل وأكثرها إغراء... بالمال الوفير والتمويل السخي، بينما ننام في سبات عميق، يستوي في ذلك الحكومات، والنقابات والاتحادات والمنظمات الأهلية، التي تكتفي بمراقبة التسلل إلى شرايينها الدقيقة بانصياع مذل للإرادة الامبراطورية؛ من دون أدنى مقاومة اللهم إلا بالاستنكار وكأنه غاية المنى ونهاية القصد!

ولأننا كتبنا في موضوع الاختراق الأميركي لأدمغتنا والتسلل إلى نخاعنا وشرايينا مرات عدة، "من دون أن يتحرك أحد"، فإننا نكتفي هنا بذكر نماذج سريعة أخرى، تجند فيه السياسة الأميركية، أموالها الضخمة القادرة على إغراء واجتذاب كثيرين، حتى من النخب المثقفة... للأسف!

ربما تكون الأحزاب السياسية هي الآن الأكثر عرضة للإغراء والاختراق الأميركي، مراهنة من واشنطن على تحريك هذه الأحزاب واختراقها وتمويلها لتكون رأس الرمح في عمليات التغيير المطلوبة، والمحرك الفعلي "للثورة البرتقالية الديمقراطية" على غرار ما فعلته أميركا في صربيا وجورجيا وأوكرانيا من قبل، وعلى غرار ما تفعله الآن في لبنان.

وعلى رغم تقديرنا الكبير لموقف معظم الأحزاب المصرية، التي أصدرت بيانا في الأسبوع الماضي، بتوقيع مسئولي 15 حزبا، يرفضون فيه بقوة أية صورة من صور التدخل الأميركي في الشئون الداخلية، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن تدخلات أميركية عدة قد نجحت في الاختراق، وقدمت فوق الإغراء المال المسال، ومازالت تفعل وتتقدم وتجاهر بما تفعل في أوضح صور التحدي!

لكن الاختراق الأخطر في رأينا، الذي يترجم فعلا وقولا، عنوان اللعب في النخاع، هو ما يجري في منظمات المجتمع المدني، من جمعيات وهيئات وروابط ومراكز ودراسات تتخفى وراء العمل الأهلي والتطوعي والبحثي والقانوني والعلمي، وتهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والشباب والإعلام وحقوق الأقليات، وكلها قضايا حيوية ومهمة وجاذبة، وفيها مشكلات معقدة لا تجد لها حلا...

ويلفت النظر تكاثر هذه الجمعيات والمراكز، كتكاثر الفطريات وبسرعة النباتات المتسلقة، مثلما يلفت النظر إمكاناتها المالية العالية، وقدراتها التنظيمية الدقيقة، على نحو ما يحدث في اجتماعاتها وندواتها ومؤتمراتها الكثيرة، من دون معرفة دقيقة لمصادر هذا أو منابع ذاك، وفي بلد مثل مصر، سألت صديقا من العاملين القدامى في مجال حقوق الإنسان، عن تكاثر مثل هذه المنظمات والمراكز، فقال لي إنه يقدر أن أكثر من 300 مركز وجمعية وهيئة، ظهرت خلال السنوات العشر الأخيرة، بعضها علني وشفاف، وبعضها الآخر غير ذلك، بينما قال لي مسئول أحد أهم مراكز الدراسات العريقة في الأردن، إن هناك 170 مركزا جديدا ظهر في الأردن وهو بلد صغير المساحة محدود السكان، يتلقى معظمها تمويلا من الخارج، ويخدم أجندة أجنبية ويعقد الندوات والمؤتمرات مرددا صدى ما يأتي من واشنطن... وإن كان هذا لا ينطبق على الكل، فثمة نماذج نظيفة أمينة أخرى!

أما النموذج الأوضح لعمليات الاختراق واللعب في الدماغ حقيقة، فهو مجال الصحافة والإعلام وخصوصا التلفزيوني والإذاعي، وها هي الساحة تزدحم بصحف ومجلات جديدة، وبمحطات إذاعة وفضائيات صاخبة، من تلك التي تلوك السياسة وتطحن الكلام، إلى هذه التي تثير الغرائز وتدغدغ العواطف المراهقة، عبر الغناء الصاخب بالأجساد الفتانة والانبهار الجذاب والإغراق في التخدير والتغييب والتسطيح!

وغدا تزداد هذه الظواهر الهاجمة والاختراقات النافذة والأموال المتعلقة، قوة ونفوذا وتأثيرا في مجتمعاتنا، بينما الكل هنا نائم في غيابات الجب، على رغم كل أجراس التحذير؛ ربما استسلاما طائعا وانصياعا خاضعا، بحجة بليدة هي، وكيف نقاوم أميركا؟!

ولذلك أقول باختصار شديد، إن ما يجري هو قمة انتهاك سيادة الدولة في أفظع صورها، ربما أدعي أنها أفظع من انتهاك سيادة العراق بالاحتلال العسكري المباشر...

وأحسب أن حكوماتنا الرشيدة هي "المسئول الأول والأخير" ليس فقط عن تشجيع المخترقين، ولكن أساسا بتفريطها في السيادة الوطنية التي هي عنوان الاستقلال ورمز الحكم، وذلك لأننا نرى هذه الحكومات بعد أن أوصلت المجتمعات إلى حال الفقر والقهر والاستبداد، تسارع بطلب المعونات وقبول المساعدات الأجنبية المشروطة، وكانت النتيجة التي نعايشها ونعرفها جميعا أن مانحي المعونات ومقدمي المساعدات، يتدخلون في كل شيء في حياتنا، بما في ذلك أسلوب الحكم وأحكام القضاء!

يتدخلون "رسميا" في رسم السياسات الاقتصادية وفق هواهم وتحقيقا لمصالحهم، ويتدخلون في السياسات الإعلامية والثقافية، وفي مناهج التعليم وفي الدراسات الدينية ويشيرون باختصارها وإغلاق بعض مدارسها، ويتدخلون في صوغ القوانين والتشريعات، ويضغطون على القضاء ويبتزون القانون، وقبل ذلك وبعده يتدخلون في إعادة صوغ نظم الحكم ومؤسساته من أعلى منصب إلى أصغره...

يحدث كل ذلك تحت الشعار الجذاب، الإصلاح الديمقراطي وتحرير الاقتصاد وتحديث التشريعات وتغيير المفاهيم والقيم، لكي تتماشى مع الحضارة الحديثة... وهو أمر يضع أمثالي في حرج شديد، فثمة تيار وطني وديمقراطي حقيقي أنتمي إليه ينادي بالإصلاح الديمقراطي، ويسعى نحو ترسيخ الحريات العامة، ويعمل من أجل محاربة تحالف الفقر والفساد والقهر والاستبداد، لكن حكوماتنا الرشيدة تصادر هذا التيار الوطني وتقيد حركته وتتجاهل مطالبه، بينما هي "تنصاع" للإملاءات الأجنبية على الفور، حتى وإن بدت غير مقتنعة أو غير راغبة!

لذلك قلنا ونكرر إننا ضد فرض الإصلاح من الخارج، وبالقوة نفسها ضد إجهاض الإصلاح من الداخل، ضد الإصلاح المستورد المرتبط بأجندات أجنبية، وضد استمرار تحالف الفقر والقهر المرتبط بشلل داخلية، نقاوم انتهاك سيادتنا وحقوقنا، من الداخل أو الخارج على السواء...

ونختم فنقول إننا نستطيع مع غيرنا، الإجابة على سؤال يقول لماذا يخترقنا التحالف الأوروبي الأميركي ويتسلل إلى نخاعنا بهذه القوة والسرعة، فكلنا نعرف الإجابة... لكننا نقف حيارى مذهولين أمام السؤال الأهم، وهو لماذا ينجحون في اختراقنا بهذه السهولة، وأين حكوماتنا وأحزابنا ونقاباتنا ومؤسساتنا، من استنزاف دمائها وانتهاك سيادتها، من دون مقاومة؟

أم أن المقاومة، لفظا ومعنى، أصبحت كلمة مشبوهة مكروهة مدانة!

خير الكلام

تقول فدوى طوقان:

حريتي... حريتي... حريتي

صوت أردده بملء فم الغضب

تحت الرصاص، وفي اللهب

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 915 - الثلثاء 08 مارس 2005م الموافق 27 محرم 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً