العدد 937 - الأربعاء 30 مارس 2005م الموافق 19 صفر 1426هـ

حوار عن الأناركية بين نعوم شومسكي وزيجا فودوفنيك

"الهيمنة والامبراطورية"...

ماساشوستس - زيجا فود وفينك 

تحديث: 12 مايو 2017

زيجا: عندما يعلن أحد الناس نفسه أناركيا، فهو أساسا يخبرنا عن القليل مما يستلهمه وما يطمح إليه - مسألة الوسائل والغايات. وهذا وحده يؤكد الحقيقة القديمة بأننا لا نستطيع تعريف الاناركية كنقطة تكتفي بذاتها، ولكن بالأحرى كموزاييك يتكون من نقاط عدة مختلفة أو من آراء سياسية مختلفة "وطموحات" - خضر، أو دعاة مرأة، أو سلاميين، إلخ. مسألة الوسائل والغايات هذه هي جزء من الخيال الملهم للأناركية على مستوى النظرية ولكن في بعض الأحيان جزء من الإحباط والكبت على مستوى الممارسة العملية. هل تعتقد أن هذا التنوع يجعل من الأناركية كيانا من الأفكار عديمة الجدوى، والتي لا ترتبط بعلاقة سببية مع بعضها بعضا، أو بالأحرى يجعل من الأناركية قابلة للتكيف بشكل شامل؟

شومسكي: الأناركية شريحة عريضة جدا؛ إنها تعني الكثير من الأشياء المختلفة بالنسبة إلى الناس المختلفين. الفصائل الكبرى في الأناركية كانت تهتم بشكل عميق بالوسيلة. كانوا يميلون بشكل دائم إلى محاولة اتباع الفكرة التي عبر عنها باكونين، وهي أنك يجب أن تبني بذرة مجتمع المستقبل من داخل المجتمع القائم، وانخرطوا بشكل مكثف في العمل التعليمي، وفي تنظيم وتشكيل التعاونيات، تعاونيات صغيرة وأخرى كبيرة، وأنواع أخرى من المنظمات. كانت هناك فرق أخرى تسمي نفسها أناركية، والتي كانت هي الأخرى مشغولة جدا بموضوع الوسيلة - لذلك، أي نوع من المظاهرات يجب أن ننفذه، وأي نوع من العمل المباشر هو الملائم والسليم وهكذا دواليك. لا أعتقد من الممكن أن نسأل هل هذا مفيد أم لا. هناك طرق مختلفة للمضي قدما في العمل، تكون مجدية في الظروف المختلفة. ولم توجد حركة أناركية متحدة كان لها موقف تتحدث عنه. يوجد الكثير من الفصائل المتنازعة التي تختلف غالبا مع بعضها بعضا بشكل حاد تماما. لم يحدث ان وجد الكثير من الأناركيين، لحد علمي، وضعوا على أرض الواقع للتنفيذ ما يسمونه التدابير الإصلاحية من داخل المجتمع القائم - مثل تحسين حقوق المرأة، صحة العمال... هناك أيضا أناركيون آخرون كانت مواقفهم مع الحياة البدائية "Primitivist"، الذين أرادوا شطب التكنولوجيا والعودة إلى الأرض..

زيجا: علم السياسة النظري يستطيع بشكل تحليلي تمييز تصورين رئيسيين للأناركية - ما يسمى الأناركية التعاونية "Collectivism" مع باكونين، وكروبتكين، وماخنو كشخصيات رئيسية والتي كانت مقصورة على أوروبا، ومن الناحية الأخرى ما تسمى الأناركية الانفرادية " Individualistic" التي كانت مقصورة على الولايات المتحدة. هل توافق على هذا الفصل النظري، ومن هذا المنظور، أين ترى البدايات التاريخية "الجذور" للأناركية في الولايات المتحدة.

شومسكي: الأناركية الانفرادية التي تتحدثين عنها، شتيرنر والآخرون، هي أحد الجذور - من بين جذور أخرى - وهي ما تسمى في الولايات المتحدة بالحركة "التحررية" "libertarian". وهذا يعني إخلاصا لرأسمالية السوق الحر، ولا علاقة لها بباقي الحركة الأناركية الدولية. في التقاليد الأوروبية، يسمي الأناركيون عموما أنفسهم الاشتراكيين التحرريين، بمعنى مختلف تماما عن مصطلح "التحرريين". وإلى الحد الذي تصل إليه رؤيتي، حركات العمال، والذين لا يسمون انفسهم أناركيين، هي أقرب إلى التيار الكبير من الأناركية الأوروبية أكثر من الكثير من الناس الذين يسمون أنفسهم أناركيين في الولايات المتحدة. لو عدنا إلى الوراء إلى الكفاحات العمالية في الأيام الأولى للثورة الصناعية، إلى ضغوط الطبقة العاملة في خمسينات القرن التاسع عشر، وهكذا، فقد حصلت الطبقة العاملة على فصيل أناركي حقيقي بين صفوفها. لم يكونوا وقتها قد سمعوا بالأناركية الأوربية أبدا، ولم يكونوا قد سمعوا بماركس، أو أي شيء من هذا القبيل. لقد كانت حركة تلقائية. لقد أخذوا كأمر مسلم به ان العمل المأجور يختلف قليلا عن العبودية، ولهذا يجب ان يمتلك العمال المعامل، وإن النظام الصناعي يدمر المبادرة الفردية، والثقافة الفردية، وهكذا، وأن عليهم ان يكافحوا ضد ما يسمونه "روح العصر الجديدة" في خمسينات القرن التاسع عشر: "اربح الثروة، انس كل شيء سوى نفسك". تلك الأصوات كانت أكثر ألفة. وكان الشيء نفسه صحيحا مع الحركات الجماهيرية الأخرى - فلنأخذ حركات اليسار الجديد. بعض الفصائل نسبت نفسها إلى الأناركية التعاونية التقليدية، التي كانت دائما ترى في نفسها فرعا من الاشتراكية. ولكن التحررية في الولايات المتحدة ولحدود ما التحررية البريطانية كانت شيئا مختلفا تماما وكانت تطورا مختلفا تماما، في الواقع، لم يكن لديها أي اعتراض على الطغيان طالما انه طغيان خاص. وكان ذلك مختلفا بشكل جذري عن الأشكال الأخرى للأناركية.

زيجا: أين في التاريخ الطويل والغني لكفاح الشعب في الولايات المتحدة ترى الإلهام الأكبر للأناركية المعاصرة في الولايات المتحدة؟ ما رأيك في مذهب انتقال المعرفة بما وراء الخبرة عبر الأجيال "Transcendentalism" كإلهام من هذا المنظور؟

شومسكي: قد تكتشفين شيئا ما في بحثك عن هذا الموضوع، ولكن شعوري هو إن حركة انتقال المعرفة بما وراء الخبرة، التي هي في الغالب حركة مثقفين، قد تكون امتلكت بعض التأثير على الأناركية الانفرادية، ولكنها لم تتصل، على حد معرفتي، على أية صورة مع حركات الطبقة العاملة الجماهيرية، التي كانت تماثل على نحو اكبر أناركية باكونين وكروبتكين والثوريين الأسبان والآخرين.

زيجا: معظم الطاقة الخلاقة للسياسات الراديكالية - بالنسبة إلى حركة الحركات الجديدة، أو التي تسمى بالحركة المناهضة للرأسمالية، أو حتى المناهضة للعولمة، هي هذه الأيام تأتي من الأناركية، ولكن فقط قليل من الناس ينخرطون في حركات هي فعلا تطلق على نفسها "أناركية". أين ترى السبب الرئيسي وراء ذلك؟

شومسكي: اعتقد أن ذلك كان صحيحا دوما. معظم النشطاء، الناس التي تناضل من أجل حقوق الإنسان، ومن أجل حقوق المرأة، والكفاحات العمالية، وهكذا، لا يطلقون على أنفسهم انهم أناركيون، لم يصدروا عن أية معرفة أو فهم بالتقاليد الأناركية. ربما هم في الولايات المتحدة قد سمعوا بإما جولدمان، ولكنهم طوروا لأنفسهم احتياجاتهم، وما يشغلهم، وطباعهم وانتماءاتهم الطبيعية. أنا لا أعتقد أن من واجبنا في الولايات المتحدة أن نبذل جهدا شاقا حتى نأتي بالناس الاعتياديين هنا، الذين لم يسمعوا في عمرهم أبدا بالأناركية الصحيحة، ونقدم لهم المساعدة حتى يصبحوا على درجة معقولة من التفهم الذي كانت عليه المرأة الشابة في المزارع وكان عليه العمال في الأحياء العشوائية حول المدن من أواسط القرن التاسع عشر، كانوا معتمدين على أنفسهم. في أواسط القرن التاسع عشر عندما كان العمال في معامل بلوويل ومدينة سالم، يطورون ثقافة مليئة بالحيوية وعلى درجة كبيرة من النشاط للطبقة العاملة، لا أظن أنهم كانوا يعرفون أي شيء عن أتباع مذهب انتقال المعرفة بما وراء الخبرة عبر الأجيال، الذين خرجوا مباشرة من الأحياء نفسها وظهروا أيضا في الفترة نفسها.

زيجا: الناس الاعتياديون يخلطون غالبا ما بين الأناركية والفوضى مع العنف، ولا يعرفون أن الأناركية "لا رئيس - an archos" لا تعني حياة أو حال للأمور من دون قوانين، ولكنها بالأحرى، ترتيب اجتماعي عالي التنظيم، حياة من دون حاكم، "رئيس - Principe". هل هذا الاستخدام الذي يحط من قدر الكلمة "الأناركية" قد يكون نتيجة مباشرة لواقع أن الفكرة التي تقول باستطاعة الناس الحياة بحرية كانت ولاتزال فكرة يخشاها هؤلاء الذين هم في السلطة؟

شومسكي: لقد كان هناك عنصرا داخل الحركة الأناركية يهتم بمسألة "الدعاية عن طريق الأفعال"، غالبا باستخدام العنف، وهو الأمر الطبيعي تماما أن تتصيده مراكز السلطة في محاولة لنسف أية محاولة للاستقلالية والحرية، عن طريق دمغها بأنها عنف. ولكن هذا ليس صحيحا فقط فيما يتعلق بالأناركية. حتى الديمقراطية يخشونها أيضا. لقد أصبحت هذه الحقيقة مستقرة بعمق للدرجة التي عندها أصبحت الشعوب لا تحس بهذا الفقدان للديمقراطية. لو نظرت مرة إلى صحيفة "بوسطن غلوب" في الرابع من يوليو/ تموز - طبعا الرابع من يوليو هو يوم الاستقلال، يوم مدح الاستقلال، والحرية والديمقراطية - فإننا نكتشف مقالا في الصحيفة يتحدث عن محاولة جورج بوش الحصول على بعض الدعم من أوروبا، لإصلاح الأحوال بعد الصدام. عقدوا مقابلة مع مدير السياسة الخارجية لمعهد كاتو "التحرري"، يسألونه: لماذا ينتقد الأوروبيون الولايات المتحدة؟ كان رده أشبه بذلك: المشكلة هي أن ألمانيا وفرنسا لديهما حكومتان ضعيفتان، إذا ما ذهبتا ضد إرادة السكان، فلسوف تدفعان ثمنا سياسيا غاليا. هذا هو حديث معهد كاتو التحرري. خشية الديمقراطية وكراهيتها عميقة حتى أنه بالكاد لا يلحظها أحد. في الحقيقة كل الهوس حول أوروبا القديمة وأوروبا الحديثة العام الماضي كان دراميا جدا، وخصوصا واقع أن معيار العضوية مع واحدة أو أخرى كانت غير ملحوظة على نحو ما. المعيار كان حادا على نحو متطرف. إذا ما اتخذت الحكومة الموقف نفسه الذي تتخذه الغالبية الكاسحة من السكان، فهي حكومة سيئة: "أوروبا قديمة - أولاد سيئون". أما إذا ما اتبعت الحكومة الأوامر القادمة من كراوفورد بتكساس وشطبت على غالبية أعظم من السكان، فمن ثم هي أمل المستقبل والديمقراطية: برلسكوني، واثنار، وشخصيات نبيلة أخرى. ويسير الأمر على هذا النمط بشكل منتظم على طول مدى الطيف، كأمر مسلم به. الدرس كان: لو بين يديك حكومة قوية فلن تدفع ثمنا سياسيا غاليا لشطب السكان عندك. وهذا رائع. وهذا هو ما خلقت الحكومات من أجله - تخطي رغبات السكان والعمل من أجل الأقوياء والأغنياء. إنه أمر عميق ومستقر للدرجة التي لا يلحظها أحد.

زيجا: ما رأيك فيما يسمى الأناركية "العلمية" - محاولات تثبت بشكل علمي أن افتراضات باكونين أن البشر لديهم فطرة الحرية. ذلك أننا ليس لدينا فقط ميل نحو الحرية ولكن أيضا احتياجا بيولوجيا لها. بعض من الأشياء التي كنت أنت ناجحا جدا في إثباتها مع النحو العام "اللغة"...

شومسكي: إنه أمل بشكل حقيقي، إنها ليست استنتاج علمي. القليل هو المفهوم عن الطبيعة البشرية التي لا يمكن أن تخرج منها بأي استنتاج جدي. إننا حتى لا نستطيع إجابة أسئلة عن طبيعة الحشرات. إننا نخرج باستنتاجات - استنتاجات مغرية - من خلال تجميعات لتكهناتنا وآمالنا، وبعض الخبرات. بهذه الطريقة نستطيع أن نخلص إلى استنتاج أن البشر فطروا على الحرية. لكن يجب ألا نتظاهر أنها مستخلصة من معرفة علمية وفهم علمي. إنها ليست كذلك ولا يمكن أن تكون. لا يوجد علم للكائنات البشرية وتفاعلاتهم أو حتى للكائنات الأبسط التي تصل إلى أي مكان هنا أو هناك.

يكونوا وسائل من أجل تحقيق الغايات نفسها بصورة أو بأخرى. يستطيعون مساعدة بعضهم بعضا. الإنجاز في أحد الميادين يساعد تحقيق إنجازات في ميادين أخرى. ولكن من أكون أنا حتى أقول ما الخطوة الأولى؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً