العدد 2890 - الأربعاء 04 أغسطس 2010م الموافق 22 شعبان 1431هـ

استنطاق الصورة وتشكّل الرؤية

«كاريكاتير البزاز» أسئلة في التجربة

ليس أبلغ من الكاريكاتير حين يعبّر بشكل سريع وبسيط عما يريد متجردا من الكثير من التفاصيل بشكل «غرضي» أو مغرض بالمعنى الإيجابي آخذاً من الشكل ما يريد، صريحاً بما في الصراحة من جرأة وشجاعة، ساخراً بما في السخرية من تهكم وتبكيت، مضخما بما في التضخيم من مبالغة وتوضيح وفضح وكشف، محجما بما في التحجيم من تورية وإخفاء ونفي، مضحكا بما في الإضحاك من تعريض وإدانة، لاعبا معنا بالشكل لنلعب معه بالمعاني كما يريد أو نريد، بهذه الجمل المسكوكة التي راقت إليّ فأصبحت تتولد متواترة أردت الدخول إلى عالم علي البزاز الكاريكاتيري لأكتشف رؤيته لما حوله وأبحث عن بصمته الخاصة والنكهة التي تنثرها وتنفحها أصابعه في تلك الرسوم.

1

إذا كان لكل فنان بصمته، فما هي بصمة الفنان علي البزاز التي من خلالها تتشكل رؤيته، لعل تصفحا سريعا في رسومه يحيلك إلى رؤية آخذة في التشكّل كلما أوغلت في قراءة التجربة، فعلى المستوى التقني ثمة خطوط مهتزة هي التي ترسم الشكل الكاريكاتيري لديه، واهتزاز الخطوط سمة قادرة على صنع بصمة لو أمعن البزاز في توظيفها وتكريسها كتقنية دالة عليه حين يقدم رسومه وما اهتزاز الخطوط إلا حالة من حالات تغيير الصورة وإدخالها إلى العالم الكاريكتيري حيث يتم اللعب بالشكل ليتم تبرير اللعب بالمعنى وتسويغه، والتهيئة لإثارة التهكم والسخرية التي يريدها الفنان الكاريكاتيري عبر الموقف الذي يصنعه من خلال التقاطاته من الحياة اليومية أو عبر ما تكثفه مخيلته من تخوم الحياة.

2

وثمة سمة أخرى هي ذلك الطول الفاره في شخوصه عادة، وإن كان ذلك تأثرا من قريب أو بعيد بأستاذه الفنان خالد الهاشمي الذي لا ينفك من ذكره بين الفينة والأخرى بما يحيلك إلى تأثر وانبهار واضحين فتأخذ في البحث عنهما في الشكل أمامك، فما سر هذا الطول؟ وثمة بدانة هنا ونحافة هناك، ووجوه سمتها البارزة أنفها المنفوخ، ولابد من معنى ودلالة وراء كل ذلك، فهل ثمة أمنية مكبوتة في مكان ما وراء تلك البدانة وذلك الطول وتلك النحافة في الشخوص أم هي الصورة النمطية للمتسلط المتمثل في شخصية المسئول والمتنفذ ذلك الرجل الغني الطويل البدين في مخيلتنا، في مقابل الصورة النمطية للرجل الفقير المستضعف النحيف والقصير، ورغم محاولة تبخيس الانجذاب لهذه الصورة النمطية إلا أن ما يفعله الفنان حين تستهويه الصورة النمطية ويكرسها هو أنه يحاول أن يتواصل مع العقل الجمعي لجمهوره ويقدم لهم الرؤية التي يريدها نقدا أو سخرية وتهكما ولعل تصفحا سريعا يجعلك تمر على تلك السمة وتقرؤه من خلالها.

3

ولعله ثمة هناك تقنية أخرى تحاول أن تكون سمة مائزة في التجربة وهي التقنية اللونية فحين يدخل اللون على تلك الخطوط التي اقترنت عبر مسيرة طويلة بالأبيض والأسود أو الرمادي فقط حين يدخل اللون فإن الشكل ينفتح على تقنية تكون أكثر وفرة في صناعة المعنى والتعبير عن مناطق لم يكن يطرقها الفنان أو لم تكن ضمن إمكاناته، ورغم أن ذلك اللون قد يميل بالفنان للاقتراب من المعنى بشكل أكبر باعتبار أن اللون من إحدى الأدوات الأقرب للحقيقة كلما جسد صورته في الواقع بما يبعد الفنان عن القدرة المجازية التي تمنحه إياها الكناية بالأسود والأبيض، وبالرغم من أن الأبيض والأسود قد اكتسب قداسته الخاصة في الكاريكتير إلا أن فنان الكاريكاتير قد يقترف الكثير من الجرأة حين يحاول الاقتراب من اللون وصناعة عمله من خلاله فاللون وإن كان يمثل إحدى الأدوات اللافتة في اجتلاب عيون المتلقي واستلابها إلا أنه يمثل تحديا بالنسبة للرسام في القدرة على توظيفه تقنيا في التعبير وجعله قادرا على احتلال مكانه في العمل الكاريكتيري، فإلى أي مدى استطاع الفنان أن يجعل اللون معبرا عما يريد.

4

ولعله ثمة تقنية أخرى تحاول أن تكون سمة مائزة في بداية تلقي التجربة عند جمهورها هي تلك الحالة التوضيحية التي حصر البزاز نفسه فيها حين جعل من رسومه مجرد رسوم توضيحية لخطاب الصحيفة في تقديمها بعض المقالات وتوجيهها في سياق المماحكات اليومية ومناكفات الصراع المشتعل على صفحاتها بين فترة وأخرى، وهذا وإن كان يمثل تسويقا للفنان وحفزا على مسايرة الحراك السياسي والثقافي فنيا وبري قلمه بشكل يومي مع اشتعال الشارع وانشغالاته إلا أنه يسير في طريق «موجه لما وجه له» ويعكس الأغراض الخاصة لمن يشتغل بالصراع اليومي ويسوق الفنان ويوجهه ليرسم الرؤية المرادة منه ليمثل رؤى الآخرين لا رؤيته، فإلى أي مدى يخلص الفنان لرؤيته حين يضعها في هذا السياق وإلى أي مدى يستطيع المتصفحون أن يتلقوا فنانهم بشكل مستقل بما يمثل رؤية خاصة يقدرونه من خلالها كإنتاج فكري خاص به، وإلى أي مدى تستطيع الصحيفة أن تفرد للفنان فسحة خاصة به ليقول رأيه الخاص ويكون مخلصا لرؤيته وتكون الصحيفة أمينة في تقديم رأي الفنان كما يريد.

5

ولعل من أهم الأدوات التي يلجأ إليها الفنان لصناعة الفكرة هي تلك الاستعارة التي من خلالها يتم أنسنة الفكرة وجعلها تتحدث عبر أشخاص من لحم ودم في لقطة درامية أو حوار سريع، أو بالعكس حيث يتم صناعة الفكرة بشكل آلي من خلال أدوات صناعية ملخصا بالصورة ورمزيتها الآلية ما يطفح به الواقع من مآس عديدة لا حصر لها، وقد تراوحت أدوات البزاز بين التقنيتين، وإن استحوذت عليه تقنية الأنسنة وتوزعت في رسومه بشكل أكبر فهي أكثر قدرة على الوصول حيث تعبّر عن الناس من خلال أشكالهم وهنا تحضر صورة المواطن المهموم الحالم بالغنى في أكثر من صورة، الشاكي من الفقر ذي الجيوب المفتوحة «المفتوقة» وكأنها ألسنة تتحدث عن جوعها وخوائها، وذلك الموظف الحالم بالرقي الوظيفي الذي يركب سلما تختفي عتباته فيفتح عينيه حائرا أين يضع رجله، وقد جسد البزاز الكثير من هموم المواطن وجمعها تحت عنوان هموم وطن حيث تضيع الحقوق وسط اللجان أو في تلك الخزائن التي يرتج عليها بالأقفال، أو تلك الشكاوى التي يكون مصيرها إلى الزبالة، وهذا الفصل وإن كان يعبّر عن هموم المواطن فإنه في الجنبة الأخرى يعبّر عن إدانة مباشرة للمسئول الذي حضر في الكثير من رسوم هذا الفصل فهو مطرقة القضاء وهو العصا وهو الهارب من ديوان الرقابة وهو النائم على سرير رفيع صنعه من تكديس المعاملات وهو الذي حصر نشاطه الإداري في ثلاثة أشياء فقط الفصل أو الإنذار أو الخصم، ونام يحلم بما يريد معتمدا استراتيجية السلحفاة لتسريع الأعمال وهو الذي يدير ظهره للمواطن وشعاره «الأقربون أولى بالمعروف» وهو الذي دون الوصول إلى مكتبه الألغام والأشواك والمتفجرات، وقد توزّعت في هذا الفصل هموم الوطن بين أوراق المواطن المتناثر في الوزارات والتي احتدمت لطول وعود الإسكان وهموم التعليم والمعلمين ووعود التنمية والتطوير والحلم بالرعاية الصحية والكهرباء ونار غلاء المعيشة وسكين الأسعار، بما يمنح الفنان قدرة على التعبير عن هموم الناس من خلال استعاراتهم البسيطة وكل ما فعله هو أنه قال هذه الاستعارات ولكن بريشته.

6

ولعل من أهم الأدوات التعبيرية لدى البزاز في ما يريد أن يقوله هي صورة الكتاب الذي يحضر في أكثر من لوحة فهو تقرير الرقابة المالية الذي يهرب منه المسئول، وهو ديوان المناقصات الذي تتسلل اليد الخلفية إلى داخله خفية ويقف السارق خلفه منتظرا نصيبه، وهو الملفات التي ينام عليها المسئول وهو المعاملات المكدسة وهو المناهج الدراسية ذات المتاهة أو ذات الشجرة التي ثمرها رؤوس الشياطين من الطلاب، وهو الدستور الذي تبحث فيه يد الشرطي عن وسائل الإدانة للمواطن، وهو قانون التجمعات الذي يضم داخله مجموعة من إشارات المرور المتمثلة في «الممنوع، وقف، وممنوع المسيرات، ويمنع الاقتراب» وكل هذه الموضوعات قد عبر البزاز عنها من خلال الكتاب، وبالإضافة إلى صورة الكتاب فهناك الكثير، منها صورة السيارة والعمامة والرؤوس المشروخة والآلة والفأس والمطرقة، والسكين المشهّرة، والميزان المائل والسلم، والتفاحة المنخورة وعنق الزجاجة والقلم الملوي والأوراق المتناثرة أو المكدسة الضائعة والكثير من الأدوات التعبيرية التي أصبحت لديه رموزا دالة على المعنى وذلك ليجلي المفارقة بين ما تقوله الصورة وما يطفح به الواقع من مآس وهموم.

7

وقد استطاع البزاز أن يعبر عن مواقف متعددة لا أحادية في كثير من الظواهر والقضايا اليومية التي تفاعل معها وصنع رسومه من خلالها، ورغم أن رسومه كان أغلبها يأتي في سياق بعض المقالات كصيغة توضيحية إذكائية موجهة إلا أن اقتطاعها مفردة أو في شكل كتاب كان قادرا أن يقدم رأي البزاز متماسكا بما في تلك الرسوم الكاريكاتيرية من قدرة على التعبير والنفاذ والتواصل مع هموم الناس في كثير من القضايا التي طرقها وتفاعل معها من هموم محلية أو عالمية.

العدد 2890 - الأربعاء 04 أغسطس 2010م الموافق 22 شعبان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً