هل مازال في لبنان آذاريون؟ بعضهم من هُواة الرقم 14 والآخر من هواة الرقم 8؟ من بعد المصالحة في الدوحة خفّ هذا التقسيم لكن تداوله استمر لفهم ما يتوجّب فهمه في ذلك البلد. لقد أصبحت (الآذريّة) سمة للبنان ومُحازبي سياسته.

في العضّ على تلك السِّمَة تُصبح التشكيلة أوسع. فَمَرَقُ السياسة اللبنانية يحتسيه اللبنانيون، لكن طهاته كُثُر، وبعضهم من خارج بلاد الأرز. لذا فإن ما سيجري في السابع من يونيو/ حزيران القادم من انتخابات نيابية سيعني الجميع، من واشنطن إلى لندن، مرورا بباريس وأسبانيا، و(ليس) انتهاء بالقاهرة والرياض وطهران وتل أبيب. إنها قضية مُدوّلة بامتياز.

في حال لبنان قضية لا تُستَحضَر كثيرا رغم مفصليتها. فما قسّم اللبنانيين ليست طوائفهم ولا مذاهبهم، وإنما السياسة لا غير. ففي الثامن والرابع عشر من آذار مسيحيون، وسُنّة، وشيعة، ودروز بالسّواء.

لذا فإن تمشّي أهل الرابع عشر من آذار صوب مشاريع الشرق الأوسط الجديد بذراع أميركية كولونيالية فلا يعني ذلك أن مُسمّى طوائفه تُجرّم بجريرة من يعتمر عنوانها. فهي قبل كل شيء مُجترّة لهويات وإثنيات أوسع من حصرها في مشاريع تروح وتجيء.

مُنتهى الأمر في ذلك هو أنه مهما تمدّدت المشاريع السياسية داخل الطوائف فإنها لن تستحصل إجماعا على فكرتها. ويزداد تراجع الإجماع كلما كانت تلك المشاريع ضد هويّات الطوائف ومُنتجها التاريخي وأخلاقية وظائفها.

وهي بعكس ذلك، حين تُستدعى لمشاريع قريبة من مُكوّنها الأصلي فهي تتماهى معه بشكل سلس، ولا تجده غريبا على مزاجها العام. هي تكون على هكذا وضع رغم سعي الخصوم نحو توريط تلك المشاريع في ضرب حياتها ورفاهيتها وتقريبها ما أمكن إلى حافّة البُؤسِ والفاقة.

لذا فليس غريبا أن تُبْتَنَى مقاومة لبنان من مدماك طائفيته المتعددة. وحِيْنَ يُرى الدُرزي (أرسلان/ وهّاب) والسُنّي (حمّود/ الخطيب) والمسيحي (عُون/ سماحة) والشّيعي (برّي/ قبَلان) في قلبها وقالبها، يُفهَم أن قوّة المقاومة هي من وحدتها مع طائفية البلد وهويته (ولو عبر السياسة) لا من احترابها مع أولئك.

وهي محطّة واحدة ضمن محطّات لبنان المتعددة. هي بالتأكيد ليست باكورة الأشياء، ولا أوسطها حالة ولا خاتمتها، لأنها وبكل بساطة أصبحت ظاهرة تتصدّى فيها الطوائف لكل مشروع ليس بذي زرعٍ وطني. إنه تفنّنٌ متقدم في حماية الوطن بذراعٍ طائفية. وهو قَدَرُ لبنان بالأمس واليوم.

ليس سهلا أن نتجاوز ما أرادته واشنطن للبنان منذ فبراير/ شباط 2005. وليس سهلا ولا عدلا أن نستدير نصف استدارة لما أعمله المُدركون لتاريخ العطاءات الإمبريالية ومآلاتها. وأيضا الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي للإجهاز على أيّة حالة سياسية وحتى وجودية لا تستقيم مع الهندسة الجديدة للمنطقة.

اليوم يتبدّى لمن اقتنع بالأميركي مُسَيَّا في لبنان، وعلى أنه قادر على حمايته أن يرى الأحوال كيف تبدّلت. سوريا يتمّ الحوار معها بشأن السلام. وإيران يتمّ التفاوض معها بشأن أفغانستان. بل إن الدائرة اتّسعت لتشمل الإقليم بأكمله.

ألكسندر لوكاشينكو رئيس روسيا البيضاء ابتعد عن واشنطن، ووقّع مع موسكو اتفاقا يسمح للأخيرة بأن تضع لها على أراضيه دفاعات مضادة للصواريخ. وقرغيزستان طردت الأميركيين من قاعدة مانس الجوية، لتصبح العمليات اللوجستية للجيش الأميركي صعبة للغاية في أفغانستان.

كما رفضت مولدافيا على لسان رئيسها فلاديمير فورونين الدخول في برنامج شراكة شرقية أوروبية تقوده بلجيكا، معتبرة ذلك محاولة لحصار روسيا. أما أوضاع الأوكرانيين فإنها صعبة بذات المقدار الذي تعاني منه الدولة المنهارة. إنه جبل من الحلفاء الأميركيين بات يذوب تحت حرارة الأحداث.

واللبنانيون وغيرهم من الأسوياء، من حقّهم أن يُدركوا بأن السياسات الأميركية والأوروبية قد لا تنفع كثيرا في الأزمات. بل إن التخلّي عن الحليف في منتصف الطريق هو أيضا سمة بارزة لديهم ما دام كتاب الأمير لا يزال حاضرا في الذهنية الغربية.