العدد 958 - الأربعاء 20 أبريل 2005م الموافق 11 ربيع الاول 1426هـ

"الحسين لغـة ثانيـة"... اختراع للماء وللنورس

أن تكتشف لغة الماء والنورس، أن تدرك حواريتهما، يعني أنك مخترع الورد ومنسق وسامته، لتلقي به باقة باقة على درج لا يأخذك إلا إلى الشعر، الشعر بوصفه حديثا داخليا مضطربا لا يتكئ إلا على آلية الفوضوي، هذه الآلية التي تكسر أفق التوقع، تفاجئك مرة، تخاتلك قبلها، هي فوضى. . لكن لها نظامها الخاص الذي لا تبصره الأعين الرتيبة.

لن أهديه لأحد!

لأن "ألـم" مازالت خائفة.

والأخضر الذي ارتدى الغياب

لم يعد بعد

هكذا يفاجئنا "جواد جميل" مفتتحا كتاب الورد "الحسين.. لغة ثانية" هكذا يفاجئنا متصفحا الفرات قطرة قطرة، يقرؤها بعينين تستلان المعنى برشاقة تامة. وبعد أن يرتب باقته يتركها أمانة بين أصابع الماء، فالأخضر الذي ارتدى الغياب لم يعد بعد.

كتب قبل "جواد جميل" كثير من الملاحم الشعرية التي قرأت الحسين، كان أكثرها سرديا، فهي قراءة أكثر من كونها كتابة، ولك أن تقتفي أثرها الحكائي.. أن تتلمس خيوط لعبتها، وحركة الدراما وتصاعد الحدث وتتنبأ النص قبل أن يتكون.. أن تستشرف مبانيها ومعانيها، لأنك تقف وتشاهد من الزاوية ذاتها التي يشاهد منها كاتب النص، ليتحول النص إلى كاميرا رقمية، تحنط الصورة أو "المشهد" وهذا يكفي ؟!. بهذه الكيفية يكون المتلقي كاتبا ثانويا "مشروكا" في النص لا "مشتركا" فيه، هي شراكة "موثوقة" وحسنة النية وهو ما يجعل التلقي تنفسا صناعيا.

في الطريق البعيد

لم يعد غير وجهي

ووجه الزمان الشريد

الحديث عن مجموعة "الحسين... لغة ثانية" حديث لغة ثانية تأخذك إلى طريق وعر ومختلف جدا لكنه يؤدي إلى القلب أيضا..

جواد جميل يقترح في نصه كرنفالا ايقاعيا يراوح بين الشكل العمودي والتفعيلة وقد يأخذ شكلا مختلفا أيضا أقرب ما يكون للموشحات لكن بايقاع خاص جدا لكأنه "إيقاع للإيقاع"، وكأن هذه المراوحة هي مراوحة الماضي والحاضر، مراوحة التمرد على ما قيل وما سيقال وما تتطلبه الكتابة الملحمية. يقترح نصه لغة ثانية سبق أن دربها في مجموعته "شظايا البحر... حكايا المنفى" التي أصدرها العام 1992م ولم تجف حتى أردفها بتجربة "الحسين... لغة ثانية" العام 1994م، بينما كان ما قبل هاتين المجموعتين من مجموعات شعرية أصدرها وهي خمس مجموعات حديثها مختلف عن حديث هاتين المجموعتين، وقد سمعت قبل فترة أنه يشتغل على "لغة ثالثة" بعد أن ترك للغته الأنيقة أن تدخل مسامعنا وحشا ملونا.

كيف لا ينحني النهار وخلف الشمس عصفورة تفدي الخيولا؟

والنجوم ارتعاشـــــة في مآقينـا وأحداقنا المرايا الأولى

نحن وعـد الماء الأسير الذي يطلـع من شفرة تحـز الذبولا

في يدينا أشيـاء من صخب البحر رجمنا بها السكوت الطويلا

سافري يا رمــاح في ظلمة الأضلاع منا وأوقدي القنديلا

لم يكن جواد جميل ليكتب الحسين ملحميا بلغة تضج برائحة الدم، كتبها بلغة القلب، لغة الورد والنورس والماء الذي كان حاضرا بأشكاله الطيبة كالنهر وبأشكاله المتمردة كالبحر، كان يشف عن رؤى و مشاهد وأبعاد ونبوءات، وهي تقاسيم مجموعته الملحمية، تكسرها "كوارس" شعرية متعمدة، الثيمة الأساسية التي تلازم كل قسم منها لغته التي تشير إليه تارة، وتشير إلى أفق دموي تارة أخرى، وكأنه يطعننا بوردة حمراء..

إن أهم ما في مجموعته الشعرية وتقاسيمها "أبعاده" التي ذيلها بترجمة: من على شاكلة صاحبها، وهو عينه صاحبها!! لكأنه يترك نافذة التلقي مشرعة، موزعا أبعاده على عشرة أقسام:

"البعد الثابت/ البعد المتغير/ البعد الخائف/ البعد الأسود/ البعد الوهمي/ البعد المشوه/ البعد الرمادي/ البعد الدموي/ البعد المظلم/ البعدالمجنون"

وأخذ يشكل حوارا داخليا لكل بعد، متجاوزا مقترحات الكتابة الشعرية المحملية، ومقتحما عالما من الرؤى، وثق لكربلاء بشكلها الملحمي من خلال المحاورات الداخلية للـ "قاتل" بدل أن يكون القتيل هو سيد الحوار، وكأنه كلما استحضر الـ "قاتل" ليكون مركزا للرواية عاد مدارجه هامشا، ففي كل بعد من أبعاده يشير القاتل إلى قتيله ويقول له أنت سيد الرواية... أنت السيد وحدك، فمثلا في البعد الخائف "عبدالله الجعفي" الذي آثر أن يهدي الحسين فرسه وسيفه بدل أن يقاتل معه فرفض عرضه الحسين، حول جميل هذا المشهد من مشهد النقل الروائي إلى أبعد ما يمكن أن يتصوره من خطاب "جواني" وكأنه يقرأ دواخل الجعفي.

لم أشأ أن يجف قلبي في الرمـــل ويغفو بمسمعي السكوت

وتلف ابتسامتي صرخات الخيل ذعــرا، ووجهها الممقوت

أنا أخشى أن يلعق الذئب أحلامي ويرفو جراحي العنكبوت

فتركت الحسين يختصر الرحلة والموت ذاهــــل مبهوت

يواصل السيرة الذاتية للجعفي أو سيرة صراعاته الداخلية بعد مقتل الحسين وبعد أن تخلى عن نصرته.

ويح هذي الصحراء ينبض فيها صخب لاحتراقتي وخفوت

من عرائي وغربتي يرجف النخل وللدود في رؤاي بيوت

إن محاولة جميل الجريئة في دخول هذه الذاكرات الفردية وتدوين حواراتها الجوانية تتطلب اقتدارا وفهما نفسيا، إدارته لبوصلة النص الملحمي باتجاه الداخل تعني اضافة تستحق الوقوف أمامها، فحتى شمر بن ذي الجوشن الذي يشير إليه في "البعد الأسود" الحوار الداخلي والشعور بالذنب "شعور القاتل" استطاع جميل من خلاله نقل مشاهد لم نبصرها من قبل في كربلاء.

ثم ماذا؟ قتلته فرأيت الأرض

تبكي ربيعهـــا المخنوقا

ورأيت السماء تهوي إلى القاع

جنونا، والأفق شلوا غريقا

وبكاء لم أدر من أين يأتي

يجلــد القلب أو يخض العروقا

وأنا الآن حفنة من غبار

كفن العــــار خدها المعروقا

والحسين الحسين يكتشف

الماء ويهدي إليه جرحـا عميقا

وهكذا يتنقل من بعد إلى آخر، يؤدي دور المتقمص والممثل المجيد لمهنته، فنراه يعبر عن "البعد الوهمي" دالا على ذلك الذي كان يطمح الى أن يوليه يزيد بن معاوية ولاية الري، لنرى جميل كيف دونه وهو يرى الورد بقعا من الدم المتخثر، ويعبر عن نفسه " جلد أفعى وجهي وخلف عيوني ذئبة في أواخر الليل تعوي". أو كما نراه في حوارية حرملة بن كاهل الذي رمى بسهم طفلا رضيعا للحسين فظل خائفا يهرب في أزقة الكوفة خوفا من عيون الأطفال:

هذا أنا...

مازلت أنحت المنى

من خشب التابوت

ومنذ أن قتلته...

غرقت في بحيرة من دمه المر

فلا أقدر أن أحيا

ولا أقدر أن أموت

هكذا استطاع جواد جميل أن يدون ملحمة الحسين من زاوية جد مختلفة عن ملاحمنا الشعرية التي تعتمد حال البناء المتسلسل للحدث وتملي علينا عزفا جماعيا، هكذا نص جواد جميل "الحسين... لغة ثانية" كنت أقرؤها وأحدث نفسي عن هذه الزاوية التي يرصد من خلالها الحدث، هكذا كان جواد جميل يدون كربلاه وحسينه من عين القاتل لا عين ا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 1:10 م

      تعليقک عال

      مشکور
      تعليقک عال عزيزي ارجو لکم مزيدا من التوفيق

اقرأ ايضاً