العدد 967 - الجمعة 29 أبريل 2005م الموافق 20 ربيع الاول 1426هـ

كل يتجسس على الآخر... فأين المشكلة؟

لمعرفة ما يقوله البرلمانيون الألمان اسأل الروس!

لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين تم الكشف عن عملية تجسس قامت بها روسيا ضد ألمانيا وفي وقت غير مناسب أبدا للبلدين. وقالت وسائل الإعلام الألمانية إنها فضيحة وخيانة وانتكاسة دبلوماسية. غير أن العلاقات بين برلين وموسكو التي هي اليوم أفضل من العلاقات بين برلين وواشنطن، حالت دون تعكير صفو الأجواء السياسية بين ألمانيا وروسيا وتم حل القضية دبلوماسيا وبصورة عاجلة.

كانت بلدة أمورباخ الألمانية الصغيرة في أودنفالد مسرحا للفصل الأخير من عملية تجسس من الطراز الأول تذكر بسنوات الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وقام عملاء المخابرات الألمانية "بي إن دي" بتتبع خطى رجل في منتصف الأربعينات من العمر وهو يدخل أحد مطاعم البلدة المتاخم لدير. في الداخل كان رجل آخر في انتظاره. تحت عيون عملاء المخابرات الألمانية راح الرجلان يتبادلان بعض الكلام ثم بدأت عملية تبادل على طريقة أفلام جيمس بوند. طرد مقابل طرد تبعه نظرات تعبر عن الشكر. على طرف كان عميل ألماني يعمل بتكليف من الطرف الثاني قدم له مرة جديدة كما فعل مرارا في السابق، وثائق ومعلومات مهمة عن أنظمة سلاح الجيش الألماني وأجهزة الاتصال التي يجري الاستعانة بها. الطرف الثاني، دلت ملامحه على أنه ينتمي لإحدى دول أوروبا الشرقية، سلم الأول الطرد الذي كان بحوزته وفيه أوراق مالية. ثم وقف العميل الألماني الذي يعمل في القوات المسلحة الألمانية وغادر المكان. وحين سدد الطرف الثاني فاتورة المطعم ظهر أمامه عملاء المخابرات الألمانية التابعون لقسم مكافحة التجسس وما كان منه إلا أن سحب بأعصاب باردة بطاقة حمراء اللون تشير إلى أنه دبلوماسي تابع للسفارة الروسية يتمتع بحصانة دبلوماسية فما كان من العملاء الألمان إلا أن دونوا اسمه ثم تركوه ينصرف.

في اليوم التالي توجه العميل الروسي الذي افتضح أمره إلى بلاده على متن أول طائرة مغادرة إلى موسكو. الكسندر كوتزمين "45 عاما" لم يكن فقط قنصل روسيا في مدينة هامبورغ، بل كان وقبل كل شيء عميلا لجهاز المخابرات الروسي GRU الذي خلف جهاز KGB بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وإضافة إلى عمله في توقيع تأشيرات الدخول ووثائق أخرى إلا أن مهمته الرئيسية في ألمانيا كانت جمع معلومات عن المؤسسة العسكرية الألمانية.

تكشف قضية التجسس هذه عن حرص واهتمام المخابرات الروسية بجمع معلومات عن الخصوم والأصدقاء، وذلك بعد مضي 15 سنة على انهيار الكتلة الاشتراكية وسقوط الستار الفولاذي في أوروبا الشرقية. وكان مكتب حماية الدستور "البوليس السري الألماني" قد دون في تقريره السنوي الصادر في صيف العام الماضي أن أجهزة مخابرات دول الكتلة الاشتراكية السابقة التي تحولت إلى جمهوريات صغيرة بعد استقلالها عن الاتحاد الروسي، تنشط عبر سفاراتها وقنصلياتها في برلين ومناطق ألمانية أخرى في التجسس على السياسة والقوات المسلحة الألمانية والشركات ومراكز البحوث. وجاء في التقرير أيضا أن الجمهوريات الصغيرة تعمل أيضا لحساب روسيا التي ما زالت أجهزتها الاستخبارية تهيمن على أجهزة استخبارات سائر الجمهوريات المستقلة عن سلطة موسكو رسميا.

وقال مسئول أمني ألماني في سياق تعليقه على قضية التجسس الجديدة: "يبدو أن سياسة "الجلاسنوست" أي التفكير الجديد التي أتى بها جورباتشوف لم يتقيد بها العملاء الروس حتى اليوم! لكن يحتمل أن يكونوا قد فهموا الجلاسنوست خطأ، فأصبحوا يتجسسون على العدو وعلى الصديق"!

القضية فاجأت المهتمين بالعلاقات الألمانية الروسية وخصوصا أنه جرى فضحها في وقت غير مناسب. فمن ناحية رسمية العلاقات بين ألمانيا وروسيا جيدة ولم تكن بهذا المستوى الجيد في تاريخها على حد تعبير خبير السياسة الخارجية في الحزب الحاكم النائب الاشتراكي غيرنوت إيرلر. وفي الأسبوع الماضي حصل لقاء جديد بين الصديقين الحميمين المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين افتتحا معا معرض هانوفر الذي حلت عليه روسيا ضيف شرف. واستغلا المناسبة مرة جديدة لاستعراض علاقتهما الشخصية المتينة وشهدا معا عمليات توقيع اتفاقات جديدة بين شركات ألمانية وروسية وخصوصا في مجال تزود ألمانيا بالطاقة الروسية.

غير أن الرئيس الروسي الذي عمل نفسه في ألمانيا الشرقية السابقة عميلا لجهاز KGB وكان مركزه في مدينة دريزدن، يروج في ألمانيا للسياسة والاقتصاد ويشجع المستثمرين الألمان على توظيف أموالهم في بلده، بينما ينشط دبلوماسيوه في تجنيد عملاء في ألمانيا لتزويدهم بمعلومات ووثائق. وتشير مصادر إعلامية ألمانية إلى أن روسيا مهتمة من جهة بمتابعة موقف ألمانيا حيال نزاع الشيشان لكنها مهتمة أيضا بكل معلومة عن حلف شمال الأطلسي. ويعتقد البوليس السري الألماني أن في ألمانيا نحو 130 عميلا روسيا يقومون بنشاطات تجسس في المناطق الألمانية وهذا العدد من العملاء لم يكن أكثر، ولا أقل إبان الحرب الباردة التي لم تنته بالنسبة إلى أجهزة الاستخبارات في شقي أوروبا. واستفادت أجهزة المخابرات الروسية خصوصا من انشغال الأجهزة الغربية منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 بنتائج الهجوم وملاحقة الإسلاميين المتطرفين، وشعرت أنها حصلت على فرصة كبيرة لجمع ما ترغب فيه من معلومات وراحت تجند الأشخاص وصولا إلى المؤسسة العسكرية الألمانية.

وقال خبير أمني ألماني ساخرا: "إذا رغبت في معرفة ما يقوله أعضاء البرلمان الألماني عبر أجهزة الهاتف الخليوي فما عليك سوى أن تسأل الروس". تؤكد ذلك أجهزة الاستقبال الموجودة على سطح السفارة الروسية في برلين والتي تعتبر من أضخم السفارات إذ تم بناؤها في الشطر الشرقي من برلين وكانت بنظر المراقبين إدارة الحكم الفعلية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة. وتلتقط هذه الأجهزة مكالمات هاتفية تجري في طول وعرض ألمانيا وهي لا تختلف بذلك عن وكالة التجسس الأميركية التي لها محطات استقبال في بلدة باد إيبيلينغ البافارية والتي تشبه كرات الغولف، كما لم يسمح للألمان بالاقتراب منها. وتؤكد مصادر إعلامية ألمانية أن تقنية التجسس التي يستخدمها الروس تفوق ما يتصوره الألمان. ويبرز هنا بصورة خاصة دور جهاز التجسس الروسي GRU في جمع معلومات مهمة للقيادة العسكرية الروسية.

في العام 2000 تسلم كوتزمين وظيفة قنصل في هامبورغ التي بدت مكانا هادئا يمارس فيه مهمته من دون لفت أنظار قسم مكافحة التجسس في المخابرات الألمانية الذي يركز عادة على مراقبة الدبلوماسيين الروس في برلين. واجتمع كوتزمين نحو عشرين مرة مع الرجل الذي جنده ليعمل لحساب روسيا في القوات المسلحة الألمانية، وفي معظم الأحيان كان يجتمع به في مطاعم أو حانات صغيرة. الألماني كان مهتما بالمال بينما الروسي كان مهتما بمعلومات عن نظام عمل القوات المسلحة الألمانية وأنظمة أسلحتها. وفي كل لقاء كان القنصل يطلب إيصال تسلم المبلغ، وكان العميل الألماني يتجاوب معه بطيبة خاطر ويدون اسمه وعنوانه وتاريخ تسلم المبلغ مع الشكر. لكن القنصل لم يعرف لاحقا أن هذا الرجل يقوم بدور مزدوج، إذ كان يقدم معلومات غير صحيحة للقنصل وكانت اللقاءات تتم دائما تحت سمع وبصر عملاء المخابرات العسكرية الألمانية MAD وأيضا وكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه" التي كانت مهتمة بمعرفة شيء عن تركيبة جهاز GRU الروسي. لم يتمكن أحد حتى اليوم من أن يعرف شيئا عن تركيبة هذا الجهاز الذي يعتقد أن 12 ألف موظف يعملون فيه. لذلك كان الاحتكاك مع كوتزمين فرصة متاحة للتعرف على بنية وأهداف الجهاز الروسي.

وحاول الألمان والأميركان إقناع كوتزمين بالعمل معهم لكنه رفض. جددوا العرض له لكنه ظل يرفض عندها قرروا فضح أمره. والحكومة الألمانية رفضت التعليق على القضية لسبب وجيه. في روسيا يعمل عملاء ألمان كما أن العلاقات الألمانية الروسية لا ينبغي أن تتصدع بسبب فضيحة تجسس... فكل يتجسس على الآخر وأين المشكلة؟

العدد 967 - الجمعة 29 أبريل 2005م الموافق 20 ربيع الاول 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً