العدد 2897 - الأربعاء 11 أغسطس 2010م الموافق 01 رمضان 1431هـ

مازلنا بحاجة لفهمه لكي نخلق نموذجاً آخر منه

فضل الله... مفكراً... مجدداً... شاعراً...

رحل فضل الله ولكن بقي منه الكثير، بقي منه لغته الخاصة التي تدل عليه في كل محفل، بقي منه نزعته نحو التجديد ونبشه في التراث، وإعادة النظر في الكثير مما عده البعض من المسلمات، بقي منه جرأته على الاختلاف وتبريره لكل لمحة مختلفة لديه، بقي منه رؤيته. وفي هذا التحقيق نرصد آراء ثلاثة من قارئي فضل الله في مسائل التجديد والإصلاح من الداخل، وإدارته لمسائل الخلاف والاختلاف وفي موقفه من الآخر وفي خصوصية لغته، حيث رأى السيدكامل الهاشمي أن إبداع فضل الله يتمثل في الجانب العملي الذي أتقنه وتمكن منه، وقدرته على احتواء الآخر، فيما رأى كريم رضي شعر فضل الله هو الباعث العاطفي لفكره. فيما ذهب الشيخ جعفر الشاخوري إلى أن شخصية فضل الله ورؤاه استطاعت أن تخلق جوا كبيرا من التسامح والمحبة والتفهم.


فضل الله والإصلاح من الداخل:

يحضر العلامة محمدحسين فضل الله كأحد الرموز المهمة في التجديد والإصلاح الديني من الداخل حتى اللحظة الراهنة، فما المساحة التي استطاع مشروعه أن يغطيها، وإلى أي مدى استطاعت أنماط التلقي التفاعل معه؟

رضي: إن أهم مساحة في نظري لدى فضل الله هي مساحة اللغة فنحن نعلم أنه كان هناك مصلحون في الفكر الديني الشيعي أمثال هاشم معروف الحسني ومحمد جواد مغنية والنائيني صاحب (المشروطة) ومحمد باقر الصدر وطبعا الخميني ومنتظري والأمين وخاتمي ومحسن كديفور وكريم سروش وهناك أكثر منهم في الفكر الديني السني أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي وعبدالرحمن الكواكبي وجمال البنا وسامر الاسلامبولي وعمر الترابي ليس فقط لأن السنة أكثر عدديا بل لأن الفكر الشيعي بوصفه تاريخيا فكر الدفاع والغيتو المضطهد كان أميل للانغلاق وخاصة لأن مشروع الدولة الدنيوية كان مشروعا مرفوضا ومؤجلا حتى عصر الظهور إلى أن نقل الخميني الدولة من العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي، بينما آمن السنة قبل ذلك مبكرا بأن الدولة الدنيوية مشروع ممكن الآن، إلا أن فضل الله تميز إلى حد كبير باللغة القوية التي لا مداهنة فيها مع الفكر التقليدي مع احترامه طبعا للجميع والميزة الثانية هي المساحة التي يفردها من الحب والكرامة لمن يختلف معهم أي للآخر.

الهاشمي: حاول فضل الله أن يطرح منهجا مستجدا في المساحات الدقيقة والمثيرة في الفكر الشيعي، وحينما أقول إنه حاول أتساءل هل تحقق ذلك أم لا... فرغم الجهد الذي بذله إلا أن المشروع تنقصه بعض الآليات المعرفية فلا أستطيع رفع شعار التجديد أو إطلاق مشروع تجديدي بدون الأدوات المعرفية التي تلزمه لذلك أقول السيد حاول وربما تنقص هذه المحاولات ما يجعل المشروع أكثر من شعار.

الشاخوري: العلامة فضل الله نظر إلى الروايات الفقهية بأصول الفقه وما أنتجته النجف من دراسات أصولية مثل دراسات النائيني وضياء الدين العراقي والسيد أبو القاسم الخوئي والآخوند صاحب الكفايات، واستطاع أن يدخل ما درسه في علم الأصول في عمق التجديد الفقهي ويطرح مثلا نظرية الآخوند في النظرة للحوادث التاريخية، وادخل نظرية «خبر الواحد» في النظرة إلى أحداث التاريخ وبدأ يطلق نظريات في موضوع التاريخ بشكل تحليلي فلا يمكن أن نصدق بأي خبر مودع في التاريخ إلا أن نجمع القرائن ويحصل لدينا الاطمئنان الخبري بحيث نستطيع أن نحكم فيه، وهذا ما سبب مشاكل للسيد في هذا الجانب.


فضل الله والتجديد في التفكير الشيعي

اقترب فضل الله من مناطق حساسة وخاصة في التفكير الشيعي عدها البعض من المسلمات فيما اشتغل فضل الله على تفكيكها وإعادة النظر فيها، كيف تجد طبيعة اشتغال فضل الله في هذا المجال وإلى أي مدى ساعدته الأدوات الفقهية مع نزعته نحو التجديد والعصرنة في الخروج على المألوف وصناعة وجهة نظر مختلفة ومغايرة؟

رضي: بالطبع تميز فضل الله بالذكاء في الطرح، فلكي يواجه الفكر التقليدي حرص فضل الله على الاستناد إلى إرث شيعي فكري وفقهي كان صحيحا من وجهة نظره لكنه لم يكن المشهور وهو لم يعتبر مشهور الفكر والفقه قاعدة بل بالعكس اعتبر اعتماد المشهورية كمعيار قياسا خاطئا ومن هنا قال إن قاعدة المشهورية جمدت الفقه الشيعي وجعلته حبيس الكتب والحوزات.

الشاخوري: ولذلك نجد أن السيد فضل الله استطاع أن يطلق فتاوى متعددة مثل قضايا التعامل مع الآخر الإنسان غير المسلم حيث أطلق فتوى طهارة غير المسلم طهارة، أي مطلق الإنسان، مستخدما أدوات الفقه من أصول علمية معترف بها في الحوزة، حتى أصبح فضل الله في الواجهة من قضايا الإصلاح حيث طرح قضايا المرأة في مسألة التولي والقضاء وهذا يعتبر أمرا مستجدا في العالم الشيعي وبدأت تتفاعل معها الأوساط الثقافية والسياسية عمليا وتأخذ مساحة من الجدل ولايزال التحفظ من حيث التوزير والنيابة والمراتب العليا في القضاء.

الهاشمي: لكن نقطة قوته كانت في الجانب العملي وليس التنظيري ولا يستطيع أحد التنكر لهذا الجانب من حيث قدرته على التطور والإبداع في الجانب العملي، وقد تمثّل ذلك في الكثير من المشاريع والمبرّات والمؤسسات المتعددة، فالسيد بحركته وحضوره وتواصله استطاع أن يمثل حالة خاصة ومتميزة. ولو فرغ السيد نفسه لهذا الجانب أكثر لما أخذ عليه ما يدعونه عليه، ولكن المساحات الضبابية التي دخلها السيد أو أولج فيها كانت نتيجة الأسئلة أو الاستفسارات ومناطق ألغام تحتاج إلى آليات كبيرة وكثيرة لها أدواتها المعرفية الخاصة، بينما كان السيد متفرغا للجانب العملي والتبليغي بتمكن وإتقان متميزين.


إدارة الاختلاف مع الآخرين

طبيعة شخصية فضل الله التجديدية دعته للدخول للتفكير في اللامفكر فيه وتولدت لديه مجموعة من النتائج المغايرة مما جعله مختلفاً عن الآخرين وتكونت لديه وجهات نظر مختلفة، فكيف تجد طبيعة إدارته لاختلافه مع الآخرين، وتعامله مع المختلفين معه؟


الشاخوري: دخول السيد في حوارات مباشرة انعكست على تفهمه لما وصل إليه الآخر

الشاخوري: لبنان بحد ذاته إذا درسته تجد أنه يعتبر نموذجا فريدا في العالم العربي حيث لا توجد دولة بهذا التنوع الطائفي والغنى الأدبي والكتاب الكبار وكانت من أوائل الدول التي بدأت فيها المطبعة، وهذا الانفتاح الكبير في لبنان فرض نفسه على السيد رحمه الله وعلى بقية الفقهاء الذين عاشوا هذه الميزة مثل السيدعبد الحسين شرف الدين والسيدمحسن الأمين العاملي والشيخ محمدجواد مغنية، هذه الأسماء كلها تقريبا أنتجها لبنان في المئة سنة الماضية تقريبا وكان عندها روح الانفتاح على الآخر، ونجد هذا الانفتاح فرض نفسه على السيد حيث التقى مع النقيض من شيوعيين وأحزاب يسارية وقومية وظل يتحاور معهم حيث لا يوجد لديه محرم في الحوار من الحديث حول قضايا وجود الله والدين والمرأة والحرية والكثير من القضايا التي تبدو غير مألوفة للأفق الديني، هذه الحوارات التي أدارها بحرية شكّلت جزءا من الاستماع والتواصل فهو لم يقرأ فقط بل دخل في حوارات عميقة ومباشرة انعكست على تفهمه لما وصل إليه الآخر من نظريات ففي الوقت الذي هو على النقيض من هذه الأفكار إلا أنه استطاع أن يتحاور ويتفهم هذا الواقع.

رضي: فضل الله فهم الآخر لأنه كان قريبا منه والناس أعداء ما جهلوا وما لم يعلموا. وفقيه بحجم فضل الله حين غامر ودافع عن قصيدة محمود درويش التي غناها مارسيل خليفة «أنا يوسف يا أبي» متحديا التقليديين مفضلا قبوله للآخر المختلف على مسايرة المؤتلف قدم نقلة غير مألوفة وهذا مثال فقط وقس عليه الأمثلة الأخرى.


الآخر في خطاب فضل الله

يحضر الآخر في خطاب فضل الله من خلال مفردات مثل التسامح والتعايش والمشتركات الإنسانية فإلى أي مدى وجد هذا الخطاب صداه في بيئة متنوعة الأطياف والأقطاب دينيا وأيديولوجيا.


رضي: مازلنا بحاجة لفهم فضل الله لكي نخلق فضل الله آخر

رضي: أخشى أن أقول إن صدى فضل الله قوي طبعا لكنه أقل من المطلوب فمازلنا بحاجة لفهم فضل الله لكي نخلق فضل الله آخر وهذا حتى الآن ما لم نستطعه في عالمنا الشيعي على الضفة العربية للتشيع. طبعا في الضفة الفارسية ثمة إصلاحيون تجاوزوا منذ زمن بعيد حتى أطروحات الخميني نفسه والتي كانت تعتبر متقدمة في عصر ظهورها لكن على الجانب العربي سننتظر كثيرا لنحصل على فضل الله جديد. بل إن الخشية أكبر الآن أن يتم إدخال فضل الله في دولاب المدافعين عن الفكر الديني الكلاسيكي ليظهروه وكأنه جزء أصيل منهم وليس إلا تنويعا على التقليدية ويتم احتواؤه كعادة المعارك الفكرية حيث يتم احتواؤها بالاحتواء أو بالإقصاء والأول أخطر من الثاني لأنه يروض التمرد الفكري ويجعله من نسيج من تم التمرد عليه ويجعل من الاختلاف مجرد مزحة عابرة وأنا أحذر من هذا الاحتواء وفي ذاكرتي التأبين النخبوي في الجنبية والذي ظهر فيه فضل الله ليس إلا جزءا من بنية الفقه التقليدي مع بعض الإشادة الخجولة جدا برؤيته التجديدية.

الهاشمي: ومما لا يمكن التنكّر إليه في حياة السيد القدرة على تفهّم الآخر والتعايش معه وذلك عائد لخصوصية البيئة التي ألهمته الكثير في هذا الشأن، البيئة المتنوعة المنفتحة على كل التيارات هذه البيئة التي كان السيد متميزا في التفاعل معها وإدراكها وتحقيق التواصل الدائم معها بحيث يقال إذا قيل لبنان فإن الأذهان تنصرف إليه فقد استوعب كل الأطياف المختلفة في الساحة اللبنانية وأكثر من ذلك متجاوزا حدود لبنان فالسيد يمثل أكثر من مجرد شخص في تجربتنا الحديثة.


الشاخوري: مثّل السيد دافعاً قوياً لمفهوم الحوار والتسامح مع الآخر

الشاخوري: وجود شخصيات تؤمن بالتسامح الديني والتعايش والحوار هذا يعطي اطمئناناً للجماعة التي تعيش في محيط هذا العالم أو في المدى الأبعد من ذلك فنجد أن لبنان لم يشهد طيلة هذه الحروب مشكلة بين السنة والشيعة مع وجود الحرب الأهلية فلم يقع هناك صراع بين سنة مثلا وشيعة أو بين مسلمين ومسيحيين وإنما الخلاف كان بين أحزاب وقد وجدنا أن النظريات التي تمثل بها السيد فضل الله استطاعت أن تخلق جوا كبيرا من التسامح والمحبة حتى شاهدنا ذلك عمليا والطريف أنه حين تكون هناك مقابلة مع السيد فلا أحد في الشارع والمحطات المسيحية هي أكثر لقاء بالسيد فضل الله من غيرها وكذلك تلفزيون صوت لبنان كان له لقاء مستمر مع فضل الله، كذلك كان السيد في هذا الجو أعطى مؤشرا ودافعا قويا لمفهوم الحوار والتسامح مع الآخر وهذا انعكس في لبنان وفي الثقافة العامة في العالم الإسلامي فقد بدأ الناس يتفهمون ذلك حتى في الحركات الإسلامية المتنوعة في مصر وفي فلسطين فبسبب خطاب السيد تم تفهم الأدبيات الشيعية بشكل أكبر مما كانت تفهم من الآخرين وهذا أعطى قوة كبيرة لموضوع التعايش ما بين الطوائف والسلام الأمني، وكان للسيد الدور الكبير في سحب فتاوى الحرب الأهلية حيث كانت الجهات الدولية تقدح شرارات الحراب في العراق، وكانت خطابات السيد وفتاواه وكتبه والحضور الشعبي الكبير لأتباعه ومريديه يمنع هذا الشيء سواء في العراق أو لبنان أو في الدوائر الإسلامية الأخرى.


فضل الله شاعراً خصوصية لغوية

من الملامح المهمة في صناعة شخصية فضل الله الملمح الشعري فكيف تجد تجربته الشعرية على مستوى العمود أو التفعيلة وطبيعة لغته وخصوصيتها سواء في نثره أو في شعره؟


رضي: شعر فضل الله يأخذك إلى أبعاد الصوفية الحقيقية

رضي: إذا قرأت شعر فضل الله يأخذك إلى أبعاد الصوفية الحقيقية عند الحلاج وابن عربي وطبعا النزعة العرفانية عند الخميني. إن شعر فضل الله هو الباعث العاطفي لفكره ودعني هنا أقول ما سأعتبره نظرية - إذا صح التعبير - وهو أن غالبية المصلحين في الفكر الديني كانوا شعراء أو يتذوقون الشعر لكن لماذا؟ لأن مادة الإصلاح الفكري الرئيسية هي اللغة وبما أن الشعر هو المرونة اللغوية التي تشتغل على المجاز ومجاز المجاز فلذلك يتحرر الفقيه الشاعر من جفاف الفقه المحض الذي لا شعر فيه ولا أدل على ذلك من أن بيئتنا العلمائية يوم كانت بيئة شعرية أيضا في القديم ويوم كان أبو البحر شاعرا وفقيها وماجد الجدحفصي شاعرا وفقيها وكمال الدين ميثم فيلسوفا وشاعرا وفقيها كنا أقرب إلى التجديد ومنذ أن انتقلنا إلى عصر العلماء غير الشعراء بل الذين حتى لا يتذوقون الشعر أصلا بدأ عصر الانغلاق والمحافظة ومازلنا نعيشه حتى اللحظة. فشعر فضل الله أهميته ليست فقط في الأدب بل في كونه الأرضية التي منها ينبثق التجديد الفكري والفقهي.

العدد 2897 - الأربعاء 11 أغسطس 2010م الموافق 01 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً