العدد 2897 - الأربعاء 11 أغسطس 2010م الموافق 01 رمضان 1431هـ

مقال عن مدرسة السيد

غياب السيد محمد حسين فضل الله عن الدنيا يجب أن يتحول إلى مناسبة دائمة لإعادة قراءة تجربة كان لها وقعها الخاص في توليد ديناميات أعطت تلك القوة العصرية لمنظومة الاجتهاد في عالم يتغير ولا يمكن له أن يستمر في التقدم من دون أن يتغير.

«الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا». فالانتباه شرط أزلي لمعرفة معنى معادلة الحياة والرحيل عن الدنيا. وأكبر خسارة يمكن أن تتكبدها الأمة إذا دخلت في عالم النسيان وخرجت من منطق الانتباه بوصفه لحظة مأسوية تفصل بين الموت والحياة.

تجربة السيد غنية وهي تتجاوب مع متطلبات الزمن وحاجاته في ثلاثة حقول أساسية: الفقه والسياسة والعمل. وتعانق الحقول الثلاثة في تجربة السيد أعطى خصوبة استثنائية في منهج التعامل والربط بين الموروث والمعاصرة. وشكل التعانق نقطة قوة أعطت للتجربة مذاقها الخاص ما ساهم لاحقاً في تميزها عن الكثير من المدارس.

مدرسة السيد تأسست على قواعد ثابتة جمعت بين الوحدة والانفتاح والتسامح والإبداع وعدم القطع بين الماضي والحاضر والمستقبل. وحتى تكون المدرسة ناجحة في معركة قاسية كان لابد لها من استكمال شروطها لمواجهة التحديات اليومية. وأول الشروط كان الاستقلال وعدم الخضوع للصغائر ما أعطى السيد صفات مميزة فرضت نفسها على الساحة.

من مبدأ الاستقلال انطلقت المدرسة لتكوين رؤى عصرية كان لها شأنها في تعديل الكثير من القراءات لأنها رفضت الخضوع للصغائر في وقت يخوض الإسلام معركة فاصلة في عالم عاصف بالحروب والمتغيرات والاكتشافات والاختراعات. والتحدي الذي مارسته مدرسة السيد بدأ حين قرر التعامل مع الوقائع الجارية بروح العصر من دون قطع مع الماضي (التقليد). لذلك كانت الفتوى عنده تمزج بين التقليد ومتطلبات العصر ما أحدث ثورة إبداعية في المجال الفقهي الأمر الذي أسس قواعد انطلاق للاجتهاد تولف بين الأصول والفروع وما بين القديم والجديد.

هذه القدرة الاستيعابية ما كان بإمكانها أن تشق طريقها الخاص لو لم تتوافر شروط الاستقلال وعدم التبعية والخضوع للصغائر طمعاً للكسب المؤقت أو لتحصيل أنصار من الحلقة الضيقة. لغة مدرسة السيد كانت تخاطب المستقبل بناءً على ثروة الماضي وتجاربه الغنية والمرة. وبسبب رؤيته العصرية كان السيد قادراً على مخاطبة الجميع بغض النظر عن هوياتهم وانتماءاتهم وولاءاتهم. وهذا الجديد في مجال الإبداع الفقهي تأسس على رؤية كونية ترى أن العالم كله يدور في فلك واحد. ولأن العالم ولد من نفس واحدة فإن التوجه لابد أن يتوحد في المصير والغاية والنهاية لكون البداية واحدة.

النص الفقهي عند السيد تأسيسي في تعامله مع الواقع، لأنه انطلق من الإنسان لا الحزب أو الفئة أو اللون أو العرق أو غيرها من جزئيات تعطل الأساس وهو الوحدة. وبهذا المعنى المقاصدي تشكلت مدرسة السيد انطلاقاً من نزعة إنسانية شمولية كلية تبدأ القراءة من أصولها لتعود وتتفرع على الهويات والخصوصيات. فالمبدأ الأول هو وحدة الكون (الأفق) ووحدة الإنسان وبعده تأتي التفصيلات لتحيط بالمجموع من دون تمييز ديني أو طائفي أو مذهبي.

إلى الفتوى (الاجتهاد المعاصر) جاءت السياسة لتخاطب العقل لا العاطفة. فالعقل هو الأساس الثاني الذي تتحرك في ظل إدراكاته مختلف المشاعر الإنسانية. إذا انتهى العقل تلاشت العاطفة. وحتى تكون المشاعر الانفعالية عادلة في وعيها اليومي لابد من ضبطها عقلانياً حتى لا تضمحل أو تذهب بالاتجاه الخاطئ. السياسة إذاً لابد أن تكون عقلانية حتى تحصن العاطفة (المشاعر) وتمنعها من التلاشي أو الانزلاق نحو الهياج الأرعن الذي يعطل التفكير ويدفع بالناس باتجاه التصادم على أوهام أو ذكريات مختلقة لا مستند لها ولا وقائع تعتمد عليها.

المغامرة الذي دخلها السيد لتصحيح الكثير من المعلومات الخاطئة كانت تستحق الولوج فيها مع علمه المسبق لكلفتها وما ستنتجه الصدمة من ردود فعل غير مدركة لمخاطر الانسياق في توهمات تاريخية. وبين المغامرة والكلفة اختار السيد الذهاب في نهج التعقل والمراجعة لقناعته بأن ما لا يدرك اليوم سيدرك غداً. فالخطاب الذي أراد توجيهه كان يراهن على المستقبل لا الماضي. وهذا الأمر لا يتحقق إذا لم تتوافر شروط الأمانة والصدق والاستقلال عن كل المؤثرات أو الإغراءات أو أصحاب الحملات المغرضة.

التأسيس الفقهي عند السيد تحرك في مجال الإبداع. ومن يبدع في مجال الفقه (الاجتهاد المعاصر) يستطيع أن يتقدم للإبداع في مجال السياسة باعتبار أن الوقائع اليومية تتطلب يقظة دائمة لمخاطبة جمهور يتعرض للظلم والاضطهاد والاحتلال من قوى الاستكبار وتوابعها وملحقاتها. وهذا النوع من التعامل كان يتطلب لنجاحه الاستمرار في المتابعة والملاحقة في أقسى الظروف وأشدها قسوة.

إلى الفقه والسياسة شكل الجانب الميداني في عمل مدرسة السيد وأنشطته العامة والخيرية في مختلف الحقول والفصول نقطة قوة جاذبة حين توجه نحو تطوير شبكة مؤسسات تساعد على التخفيف من معاناة فئات من قساوة الدنيا. ولعبت المؤسسات دورها النوعي في تشكيل منظومة ثابتة من العلاقات تستند إلى طاقة من الصعب ضمورها بعد الغياب.

رحيل السيد عن عالمنا لابد له من أن يشكل لحظة انتباه لإعادة قراءة تجربة مدرسة تعانقت فيها الحقول الثلاثة في سياق زمني محدد. والزمن لا يقاس دائماً بفترة وإنما أحياناً ينفتح على آفاق مستقبلية تتجاوز الراهن. ومدرسة السيد الإبداعية في التأسيس والمأسسة والرؤية المعاصرة وعدم القطع مع آليات الماضي والانفتاح والتسامح وإخضاع الجزئيات للكليات... كلها تشكل في مجموعها قوة دفع للبقاء والاستمرار في عالم يتغير يومياً.

العدد 2897 - الأربعاء 11 أغسطس 2010م الموافق 01 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً