العدد 2911 - الأربعاء 25 أغسطس 2010م الموافق 15 رمضان 1431هـ

«في بيت نزار قباني»

«هذه قصة قصيرة مستوحاة من قصيدة بعنوان «في بيت نزار قباني» من ديوان محمود درويش الأخير (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي) والذي صدر بعد وفاته».

إنه نزار قباني، هذا الجميل الفاتن للنساء, المولود في بيت دمشقي عتيد، في بيت مسيّجٍ من بابه إلى غطاء السرير بالشعر والكلمات الأخاذة, وقد أصبح بيت الشعر والبيت الدمشقي وجهين لعملة واحدة لدى الولد اليافع, وبات الشعر المكان الأثير على نفس الفتى ومكان سكناه الدائم، بعد أن غادر البيت الذي ينام على جبل قاسيون إلى بيوت البحر القريبة والبعيدة، لكنه لم ينسَ طاحونة القهوة، تلك القهوة التي كان يعبق بها ذلك البيت الدمشقي.

الفتى الدمشقي يكتب وكأنه يغرف من بحر ليس له قرار، انه سيد الشعر والبيان إذْ الأبجدية طيعة كامرأة مجنونة بحبه ورهن إشارته، عندما ينوي الشعر ليس به حاجة إلى مكتب، وهو الذي «يكتب فوق الوسادة ليلا، وُتكملُ أحلامُه ذكرياتِ اليمام». وله قلب في حالة صحو دائم ، وقد وزعه على نساء كثيرات من هنا وهناك، لكنه بعد طول ارتحال «يصحو على نَفَسِ امرأة من نخيل العراق، تُعد له الفُلّ في المزهرية» .

لقد كان نزار قباني جميلا إلى الحد الذي تتهافت عليه النساء، كل النساء، «كان أنيقا كريش الطواويس، لكنه لم يكن «دنجوان» تحط النساء على قلبه» ويستخدمهن في أغراضه الشعرية، وهن أشبه بالوصيفات في مملكة الشعر القباني.

يمضي النهار ويأتي الليل، وسرعان ما تتفرق الحسناوات الشبقات عن الفتى الدمشقي، ليبقى أسير وحدته، حتى إذا «انتصف الليل قاطعه الحلم: في داخلي غرف لا يمر بها احد للتحية» أو يقول سلاما على المعرفة، ما ابعد النهار عن الليل وفي القلب لوعة واسى على ما مضى.

وعلى الرغم من ذلك الأسى، وعلى الرغم من بعد المسافة بينه وبين الوطن وبيت الياسمين، فقد حمل وطنه في شعره وفي حناياه وثناياه, فأنا «منذ تركت دمشق تدفق في لغتي بردى، واتسَعتُ» وضمّنتُ كلماتي وأشعاري رائحة الفُل والياسمين اللذين يعبقان في دمشق، كانت مدينة المدائن التي اعشقها وأتنفس هواءها، في النوم واليقظة، في البعد كما في القرب. لقد غادرتها ولم تبارحني، فارقتها وظلت تسامرني في وحدتي وخلواتي وغربتي عندما يحل المساء ويتفرقن النسوة من حولي لأبقى وحيدا في مدينة الضباب وتحت وطأة الصقيع الروحي في هذه المدينة.

نزار قباني في مثل هذا هو «العفوي، البهي» الذي يُرقّصُ «خيل الحماسة فوق سطوح الغناء»، وهو الذي كتبتْ صورتُه سيرتَه وحكمت عليه بالنفي في المدن الساحلية ليتوه فيها.

بيت نزار قباني كبيت الشعر، حيث العبارة والحجارة في الاثنين شفافة وزرقاء، كل شيء فيه ازرق «ليله ازرق مثل عينيه، آنية الزهر زرقاء والستائر زرقاء» حتى سجادة غرفته تأبى إلا أن تكون زرقاء، وأكثر من ذلك فإن «دمعه حين يبكي رحيل ابنه في الممرات ازرق» كما أن بقايا زوجته بلقيس التي قضت نحبها في يوم بيروتي حزين، زرقاء, وفي خزانة زرقاء. كل شيء فيه ازرق دونما حاجة إلى سماء، إذْ يكفي قليل من زرقة البحر ليتسع الأزرق ويستغرق كامل الأبجدية والذكريات والحاضر والمستقبل.

ومضتْ الأيام بين الشاعر والشاعر، وفي إحدى المرات عندما التقى محمود درويش نزار قباني وقد ألمَّ بهما المرض، وباتا غريبين في المدن الرطبة، دار الحوار التالي:

محمود: نعم «أنت في حاجة لهواء دمشق» فالغربة ممضة وقاتلة للروح.

نزار: أنا «سأقفز بعد قليل، لأرقد في حفرة من سماء دمشق» لتكون مثواي الأخير.

محمود: «انتظرْ ريثما أتعافى، لأحمل عنك الكلام الأخير»، وأردف محمود قائلاً «انتظرني ولا تذهب الآن، لا تمتحني ولا تُشكل الأس وحدك» فما أصعب الفراق .

لقد كان هذا الأخير يرغب في ألا يفجع بموت صديقه قبله ويود لو ساوى بينهما القدر بضربة واحدة وفي برهة واحدة لتنثر على نعشيهما في لحظة واحدة ورود الأس، وتكتمل البداية بالنهاية.

لكن الفتى الدمشقي وإشفاقاً منه على الفتى الفلسطيني، أبى إلا أن يتقدم الركب ليكتب قصيدته الأخيرة، أن يترجل ويرحل وحيدا تاركا وصيته، والتي كتب فيها «انتظرْ أنت، عشْ أنت بعدي. فلابد من شاعر ينتظر». لا ينبغي أن يخلو العالم من شاعر يرتب فوضاه ويعيد له بهاءه وجماله.

فرد عليه محمود برغبة منه أو بدون رغبة قائلاً: ها أنا اشهد موتك وها أنا ألبي ما أردت وعليه «فانتظرتُ وأرجأتُ موتي» إلى حين، وكان مقدرا أن اشرب كأسك لا أن تشرب كاسي، وكما حذونا حذوك في الشعر، حيث كنت السابق علينا في الأبجدية، فقد حذونا حذوك في الموت، حيث كنت السابق للأبدية، ونحن اللاحقون.

أيها الأزرق الجميل، أيها الفتى الدمشقي، فلتهنأ بالسلام بعيدا, بعيدا هناك ونحن قادمون للقياك.

العدد 2911 - الأربعاء 25 أغسطس 2010م الموافق 15 رمضان 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً