العدد 1035 - الأربعاء 06 يوليو 2005م الموافق 29 جمادى الأولى 1426هـ

مكالمة هاتفية

ميت وكأني نائم أحاول جهدي أن أنهض من هذا السبات، أن أحرك رأسي تجاه المكان، أن أفتح عيني قبالة الأشخاص، أن ألحظ بطرف عيني الباكين حولي، دعوت أن أحرك لساني على الأقل لأخبرهم بالحقيقة، لكن دعواتي لم تستجب.

ميت وكأني لازلت حيا.

لم يمض على وفاتي وقت طويل، لكن وفاتي نفسها استغرقت وقتا طويلا. هذا للعلم فقط، فلا يعرف أحد هذه الحقيقة. إني ميت الآن، ولا داعي للصمت.

أعرف أنه قد أحزنهم موتي، لكن في الحقيقة أسعدني ذهابي هذا، كان رغبة طالما حلمت بها وقد تحققت. موتي كان أمنيتي.

أتكلم وكأني بشر

اسمي مخالف لما أنا عليه، ولن أذكر لكم اسمي، أنا الميت. لكن هاأنا ذا أطلب منكم الهدوء والسكينة والتصديق لما يقال لكم. اعذروني ليس من ميت فعلها قبلي لكن هناك سبب يدعوني لذلك، قد لا يكون ذا أهمية لكم - شأن حياتي - غير أنها ستكون ذات أهمية لابني. وابني هو الذي سيلحق بي عما قريب.

أرنو وكأني أبصر

رفعت أعلاما وبيارق منذ طفولتي. المسيرة في المواكب، الاحتفالات، المهرجانات، التظاهرات، وحتى تسلم الشهادات، رفعتها كما البيرق. لم يكن عندي أدنى شك في رفضي ولا عدم انتمائي، ما رغبت أن أستظل تحت هراء أحد. كان عندي كفايتي من الغضب والعنف، وذلك مهم جدا حتى يمكن على الأقل بلع الريق في جفافه.

صادفت كل العبارات والشعارات والهتافات، ما كان عندي استعداد للالتصاق بما أرادوه، دائما ما أحسست بنقص ما، وكلما ترسمنت جهة فقدت إيماني بها.

وفي نهاية الأمر فقدت أية رغبة في الإيمان، إنما آمنت بما رأيت ربي فيه.

الإيمان أصعب من الكفر.

واقف وكأني ثابت.

أستنهض كل قوة في خلاياي، العظام بالذات، والتي أحس منها بالآلام العظيمة - الهراوات تكون أصلب من العظام بعض الأحيان - واقف حتى شارفت على الانهيار.

محبط وكأني واثق

لم أقرأ في جامعيتي أكثر مما يربطني بالوظيفة المفقودة المستحيلة. كل الطلاب مرجومون مهزومون منتهكون، وإن كانوا على قدر وافر من الحظ، فإنهم مشوهون.

إن ابني في جامعته، ولربما هو مهزوم كما كان أبوه.

غاضب وكأني أولد

في مجتمع الزكاة يوجد صنفان من البشر، الزكي والنتن.

هل يجب الاقتناع بأن الرؤى لا تكون إلا بأسباب؟

ذات مرة وأنا أغامر بالنوم، حلمت، كأشد ما يكون للحلم من وطأة. غير أني لم أدرك من الحلم إلا شكوى أحدهم يقول: "طلبنا من وزارة الصحة أن توفر باصات للأطفال لتنقلاتهم - على العموم، لم أعرف لماذا طلب الأخ ذلك من وزارة الصحة إلا في نهاية الحلم - لكن الوزارة لم تكن لتسمعنا، الآن قاموا بتوفير الباصات لتخدم مناطق محدودة ومحددة، ولما تذمرنا سحبوا الباصات، يا ناس! جثث الأطفال تملأ المكان!".

عندها استيقظت فزعا ومنبه الساعة يرن على موعد الفجر.

لماذا كان علي أن أنام لأتكلم بحرية، وعندما أنام فعلا تنتابني الكوابيس؟

متأمل وكأني أنا

ذلك العرض المسرحي الهائل، هذا الممثل الباهر الفاتن، ذلك الأداء العميق الفتاك. عرقه المنهمر الدموي، لماذا كل هذا؟

في أية لحظة في العرض وفي كلها أحسست بما يشبه الحقيقة، أو على سبيل الاجتراء، الحياة. كنت أسمع خطواتهم تدب على الخشبة معلنة وقوفهم وشهادتهم، وبالأخص ذلك الممثل، عيناه لا تفصحان لا عن نفسه ولا عن الشخصية، إنهما يحتفظان بأسرار الأشياء.

شأنه شأن كل الممثلين، تدهسهم الخشبة والكاميرا وأقدام الناس.

هاهو ممثلنا جالس في كواليسه متأملا، باذلا ببذخ كل الحنان في آلامه. عيناه الآن تخترقان المكان.

ترى، ما الذي يفكر به الممثل؟

هائم وكأني موجود.

تمزق قلبي بشدة لأنه لم يكن مستعدا بعد للحب. هاهي أمامي الفتاة التي لا توصف. تهزني بعنف وبوادر دموع في عينيها، ألقت علي كلاما كثيرا، ثم:

- تعطف علي، تحنن يا ظالم. أمسك يدي، لأجل كل هذا الحب، أرجوك.

- عانقني، إني أنهار ألا ترى. دعني أدفن رأسي في صدرك، امسكني، ضمني إليك.

لكني كنت سلبيا جدا، فلم أحرك ساكنا ولا سكنت متحركا.

كنت دائما أحس بحرارة حبها يملأ المكان الذي يجمعنا، أيا كان. كانت تحبني حتى الجنون، لكني كنت دائما متبلدا، أبتعد عنها لسبب في داخلي لست أستطيع تحديده.

أنا وهي الآن وحدنا في هذه الغرفة، أستشعر ثقل طلبها وضراوته، وأحس بوهج في مشاعرها لا يمكن هزيمته. أردت أن أفرد ذراعي على اتساعهما وأضمها كأشد ما يكون، شعرت بحب جارف مفاجئ تجاهها، لكني وقفت جامدا، تحركت أصابعي لا شعوريا فكانت تلك إشارة لها. رمت بنفسها علي، قذفت بكل الحب في صدري وبكت كحرقة الفقد، لقد انتصرت على جبني.

جرت دموعي صاخبة هادرة لكن بصمت ومن دون أي صوت، لم تكن بأقل من دموعها، لم أعرف حتى الآن ما الذي أبكاني، لكن بعد برهة أحسست بقوة ذراعي تعصرها، وهي لم تعترض بل ازدادت التصاقا بي.

تعانقنا لساعة كاملة.

أحيا وكأني أقتل

هاأنا ذا أقود السيارة ومعي ابني، أقود ولا أكترث بالحياة. الشارع لا يكتفي بالسيارات ولا بأحزان بائعي الياسمين من الأطفال. الشارع ليس ملكا للشمس، إنه ملك للنفط. عيناي تبصرانه ولا يمكنني الاحتفاظ به.

إليكم الآن كيف أموت. تسارع عندي الشارع والزمن والطبيعة. فجأة توقفت الطبيعة، وانتشر الشارع، أما الزمن فواصل تسارعه. ابتسمت لدى سماعي الأشياء كلها، برقت عيناي في لحظة لم أدركها.

مات دماغي.

سكت الدماغ وأنا أقود السيارة لكن السيارات الأخرى وابني لا يعرفون.

نحن - أنا وابني والسيارة - نصطدم بالسيارة الأمامية ثم الجانبية ثم كل السيارات المسرعة التي بالخلف. مقدمة السيارة تسحقني، وتهشم رأسي ابني.

كان يحلو له في طفولته حينما الريح تداعب البيت، أن يسند رأسه إلى الباب ويتركه يتهادى به حتى ينام واقفا. وكنت حينها أضع راحتي على رأسه ثم أضمه وأحمله على كتفي كالذبيحة.

الآن هو ذبيحة لكني لن أحمله.

ميت وكأنه نائم.

راحل وكأني أعود

كان بودي البقاء، لكن كل ما كان يمكن للمرء الاحتفاظ به ذهب- في حياتي وموتي على السواء - لكن الله هو الوحيد الذي يحتفظ لنا بأشيائنا.

ها أنا ذا أنهي كلامي دون أن أخبركم عن السبب الذي جعلني أتحدث معكم. ذلك أن الموتى يحتفظون دائما بأسرارهم، وأنا لا أريد أن أختلف عنهم مطلقا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً