العدد 1036 - الخميس 07 يوليو 2005م الموافق 30 جمادى الأولى 1426هـ

نحن والتقنية الحديثة... من أين وإلى أين؟

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

"عصرنا هذا لهو من أعجب العصور، منذ عاد وثمود، إلا أننا ألفنا هذه العجائب. فلو قام أسلافنا واستمعوا إلى الراديو، وشاهدوا التلفزيون، ورأوا طائرة الجامبو وهي تهبط في ليل المطار الدامس، تنش وتقصف، لأشركونا".

إميل حبيبي

مفاد النكتة عندنا نحن أهل الخليج تذكر أن أحد الأبناء المتنورين والدارسين في الخارج في منتصف القرن العشرين عاد إلى بلده وبلدته وأهدى والده مذياعا صغيرا "ترانزيستور" ولم يخبره عن كيفية عمله: إطفاؤه أو تشغيله، وأن كل ما فعله الابن أن أدار قرص المشغل الدائري الأسود وبدأ المذياع في إرسال أغانيه وأخباره السارة والمحزنة، وبدأ يتلو القرآن، وأخذ من فيه يناقش أمور الساعة. هكذا ترك الولد الوالد مع المذياع وذهب ليقضي بعض أعماله الملحة، وحين طال غياب الابن أراد الوالد أخذ غفوته المعتادة عند ساعة الظهيرة فقال للمذياع "اسكت" فلم يسكت المذياع، فكرر عليه القول مرارا "اسكت" ولم يسكت، فدعا زوجته لتأمر هذا الجهاز المهذار بالسكوت، غير أن المذياع واصل بث ما في جعبته من دون المثول للأوامر التي تلقاها منهما، فغضب الأب وفقد أعصابه فأخذ عصا غليظة وضرب المذياع ضربا مبرحا حتى تناثرت أجزاؤه في كل مكان وصمت إلى الأبد!

الأبناء والآباء منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم مروا بتجارب عسيرة وصعبة على الهضم من جراء التقنية "التكنولوجيا" منها ما جاء من المذياع ومنها ما جاء من التلفاز إذ كان صوت الرجل وصورته من المحرمات، وحيث كانت النساء تصم آذانهن وتغطي بعضهن وجوههن حتى لا يراهن الرجال الذين يطلون عليهن من دون استئذان من الشاشة الزجاجية. كما كان صوت المرأة وصورتها من المحرمات بالنسبة للرجل وهي يومذاك كانت عورة وكانت المرأة تطفئ التلفاز حتى لا يرى رجالهم النساء الجميلات اللواتي يطللن متبرجات بشعور طويلة مسرحة.

السينما هي الأخرى حظيت بما حظيت به الأجهزة الأخرى وأكثر من ذلك، وربما حتى يومنا هذا، إذ يرى بعض الرجال والنساء انها بؤرة فساد وإفساد. والحقيقة المرة انها عكس ذلك بكثير، فهي أداة من أروع أدوات الإبداع البشري؛ والهاتف من ثابت إلى محمول هو الآخر قيل عنه أشياء كثيرة أكثرها شهرة بأنه "جني" بالنسبة للثابت و"مصدر أمراض" بالنسبة للنقال.

ليست الأجهزة الناطقة وحدها هي التي حصلت على نصيبها الوفير من الرفض في البداية، بل حتى المكيفات التي قيل عنها إنها قد تصيب الانسان بالموت والمرض! ومما يثير الضحك هنا، أن "السندويش" ذلك المسمى عربيا "شاطر ومشطور وبينهما لحمة"، هو الآخر حصل على جزء وفير من الرفض، لأنه كما زعم الزاعمون يعلم الأولاد ويعودهم على الخلاعة! الكهرباء هي الأخرى حصلت على نصيبها الوفير من الرفض، إذ حدثني وزير بحريني قائلا إنه في عهد المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة وعندما أرادت الحكومة إدخال الكهرباء إلى البحرين خرج البعض في مظاهرة تطالب بعدم إدخال الكهرباء إلى بيوت أهل البحرين بحجة أنه كيف تأتي الحكومة بشيء يقتل الناس في بيوتهم! تخيلوا معي لو نجح الناس يومذاك بإقناع الحاكم بعدم إدخال الكهرباء.

اليوم التكنولوجيا بفضل الكهرباء في كل مكان ولا يمكن لأي إنسان كان أن يوقف زحفها أو أن يتهمها بمعادات الإنسانية أو قتلهم أو بتخريب أذواقهم؛ فالكهرباء أصبحت عصبا مهما من عصب الحياة ولا يمكن أن يستغنى عنها للحظة واحدة؛ فالثلاجة تحفظ لنا الطعام وتمنحنا الماء البارد في عز الصيف. المايكروويف يطهو طعامنا في ثوان معدودة وإعداد القهوة والشاي لا يستغرق الآن سوى دقائق محدودة، الهاتف منذ أن طل علينا كان في غرفة كبيرة يقوم على حراستها جنود مدججون بالسلاح، إلى أن وصل إلى حد وضعه في ساعة معصم لا يوظف للحديث فقط، ولكن هو الآن مذياع وتلفاز ومنظم مواعيد ومراقب صحي يقيس ضغط الدم والنبض وارتفاع السكر وأشياء أخرى. بل انه الآن يحدد موقعك في العالم بحيث يمكن معرفة مكانك بالمليم، وإنقاذك إن تطلب الأمر ذلك أو التجسس عليك وعلى نشاطاتك أيا كانت تلك النشاطات. إلى جانب ذلك فهو فاكس ملي وبدالة تجيب نيابة عنك في حال عدم تمكنك من الرد على المكالمات.

والتلفاز لم يعد ذلك الذي يبث المحطة الأرضية المحلية بل تعدى ذلك ليبث لك وعلى مدار الساعة من حول العالم وعبر الأقمار الاصطناعية برامج بمئات الآلاف منها ما هو مقبول ومنها ما هو مرفوض، والأمر نسبي جدا ولم يعد هناك من أحد يغطي وجهه أو ينهر لأنه يرى ما ليس مسموحا رؤيته.

تقنيات حديثة لم يعرفها آباؤنا ولا أجدادنا مثل الكمبيوتر والماسح الضوئي وآلة النسخ والطابعة المتعددة المواهب و"أل يو إس بي" و"الفلش ميموري" و"الأي بود" "والقرص الصلب" و"البلوتوث" و "الأقراص اللينة" وأمور أخرى جمة يصعب حقيقة حصرها في عجالة مثل هذه، يترصدها المقص الذي هو بدوره قد تطور جدا بعد أن كان في أيادي محدودة أصبح في أياد عدة لا يمكن حصرها.

من هذه الأمور أيضا آلة التصوير التي اعتبرها كثيرون حراما يودي بمقتنيها إلى نار جهنم، هي اليوم توظف في كل مناحي الحياة، من طب وجغرافيا وإعلام وفضاء وفن. فبعد أن كانت صندوقا كبيرا يحمله الإنسان على كتفه ويدور به من حي إلى حي يصور من يشاء من رجال فقط ولا يمكن إلتقاط أكثر من بضع صور، إلى أداة صغيرة الحجم أو جزء من كل في هاتف أو ساعة، فهي اليوم تطورت كثيرا، فبعد أن كان يتوجب عليك الانتظار عدة أيام للحصول على نسخة من الصور التي التقطتها لك ولأسرتك، تستطيع أن تشاهد مجهودك وصورك بعد لحظات معدودة من إلتقاطك لها، ولن تحتاج إلى فيلم سالب ولا ورق موجب للطباعة، فيكفي أن توجد لديك آلة طابعة لتحصل على نسخة من صورك متجسدة أمام بصرك في لحظات أو أن تحملها إلى أي جهاز كمبيوتر أو شريحة تخزين بدل الفيلم. آلة التصوير الرقمية كما سميت تمنحك وسائل مبتكرة لحفظ الصور ولا تحتاج إلى ألبومات كما هو متعارف عليه. وهناك الآن إطارات لعرض الصور تشبه إلى حد بعيد شاشة التلفاز، تعرض الصور عشوائيا أو بناء على تراتبية معينة، وهذه الإطارات جاثمة من دون حراك على طاولة المنزل أو بجانب السرير أو على حائط مكتب أو منزل. آلة التصوير اليوم تتطور تطورا لا يمكن اللحاق به حتى من قبل المتخصصين والمحترفين فما بالك بالهواة. فالعدسات المستخدمة هي عدسات مصقولة بدرجة عالية جدا لتمنح وضوحا منقطع النظير في الصورة الملتقطة لأي هدف أو غاية.

الألعاب هي الأخرى تطورت كثيرا، فهي اليوم ألعاب تقنية، فبعد أن كنا نلعب بألعاب من صنع أيدينا أصبحت الألعاب توظف تقنية الشاشة الصغيرة التي يمكن حملها في راحة اليد أو شاشة التلفاز أو الكمبيوتر. وهي ألعاب تمنحنا العلم بطريقة ذكية وتشد انتباهنا إلى مواقف كثيرة تحتاج إلى تفكير، بل هي تدعنا نبتكر ونفكر في إيجاد حلول لمشكلات جد معقدة، وقد يعتبرها البعض ملهية ومضيعة للوقت، غير أن الدراسات التي عكف عليها علماء كثيرون أظهرت نتائجها في كثير من الأحيان غير ذلك، فهي تشير إلى أنها طورت عند أطفال كثيرين مهارات التفكير والعصف الذهني وإيجاد الحلول لمشكلات يواجهونها بطريقة إبداعية.

تقنية الصوت هي الأخرى تطورت جدا، فعلوم الصوتيات والسمعيات تطور جدا بحيث يمكنك الاستماع إلى الموسيقى مجسمة بأبعاد ثلاثية وكأنما تعيش الحدث في لحظة حدوثه وبثه، أو أن تكون جالسا في مسرح يؤدي موسيقوه ألحانا عذبة على آلاتهم الكثيرة أمام حشد من الجمهور، أو أن تكون في مسجد أمام خطيب مفوه أو قارئ للقرآن. ووصلت هذه التقنية إلى كل موقع فيه أجهزة صوتية من سيارة إلى مسرح إلى دار للسينما إلى البيت، إذ نظام المسرح المنزلي الذي يمنحك الاستماع والاستمتاع إلى النظام الصوتي نفسه لأكبر مسرح مع فارق بسيط لا يحس به الإنسان العادي، وهناك غير هذا كثير.

أود أن أعود الآن إلى بداية الحديث، إذ المذياع كان أداة التواصل الوحيدة المتاحة تقنيا مع العالم يومذاك. اليوم أدوات التواصل مرت عبر بصرنا وبصيرتنا بسرعة خاطفة جدا، بعضها استمتعنا به وبوجوده معنا وبعضها لم يصل إلينا قط لأنه توفى وانتهت صلاحيته قبل أن يصل إلينا؛ فبعد أن كنا نستمتع بأغاني أم كلثوم وهي تشدو "اسأل روحك" أو "أنت عمري" أو "غدا ألقاك" وغيرها من جميل الكلمات وعذب الصوت والألحان على اسطوانات سوداء تذيبها الشمس وأشرطة لا تتسع لأكثر من أغنية أو اغنيتين قصيرتين على أكثر تقدير، يجهد في إعدادها لنا كثيرون، جاء إلينا الـ "سي دي"، أداة التخزين والاسترجاع الحديثة إذ أصبح في مقدورنا أن نحفظ كما لا بأس به من الأغاني ومن ملفات الصوتيات الأخرى؛ اختفى أو هو في طريقه إلى الاختفاء من حياة البشر الـ "سي دي" إذ بدأ عالم جديد اليوم إذ أصبح في استطاعة كل البشر أن يحملوا في جيوبهم جهازا صغيرا لا يتعدى ارتفاعه ثلاث بوصات وسمكه نصف بوصة يحوي قرصه الصلب على 2500 أغنية من أغاني أم كلثوم وغيرها إن شئت من أجمل الأغاني، أو أن يحتوي فيه على القرآن وكل التفاسير المتاحة والأحاديث النبوية الشريفة والسيرة النبوية أو أي مقطع من لقاء أو خطبة منبر للعظماء من النساء والرجال أو غيرهم من الناس. كما يستطيع أن يضع إلى جانب ذلك جميع المعادلات الحسابية أو أية معادلة شاء أن يضع أو أن يحمل معه عشرات الصحف وآلاف الكتب المسموعة بأصوات جد عذبة ومفهومة ومنطوقة نطقا صحيحا. هذا طبعا إلى جانب المعلومات الخاصة جدا من معلومات عن جميع من يود الاتصال بهم أو معرفة كل شيء عنهم من تاريخ الميلاد إلى تاريخ الزواج وغيره والمواعيد التي لا يمكن أن تفوته بعد ذلك لما يتضمنه الجهاز من وسائل جد مبدعة للتنبيه.

في الطريق سيكون من الممكن أن تحمل معك موسوعة متكاملة بالصوت والصورة إذ سيكون في مقدور الجهاز أن يقرأ لك أي مقطع أو مقال من الموسوعة ويريك فيلما مصورا عن الموضوع الذي تبحث فيه.

الجهاز أيضا هو آلة حاسبة ومحول عملات ومترجم وربما يكون ناطقا بعدة لغات ودليلا جغرافيا. وفي القريب العاجل إذ لن تضيع خطواتك مرة أخرى أينما كنت في العالم بحثا عن عنوان.

هناك أجهزة أكبر حجما تمنحك قدرتها التخزينية على حفظ خمسة وثمانين ساعة من الأفلام الناطقة، تسعة آلاف أغنية وآلاف مؤلفة من الصور الفوتوغرافية لها شاشة عرض تستطيع من خلالها مشاهدة ما يعجبك من دون أن يزعجك أحد ما في أي وقت تشاء وأين تشاء. وتستطيع أن تشارك من تشاء إذا أردت بتوصيل الجهاز إلى شاشة عرض كبيرة في المنزل أو المكتب أو المقهى.

إضافة إلى ذلك، صاحب تطور تلك الأجهزة تطور في أجهزة أخرى منها السماعات الكبيرة والصغيرة، فهي اليوم تمنحك أرقى وأعذب التقاسيم الصوتية وتطور معها وسائل الحفظ ووسائل الاستماع إلى المذياع، فلم يعد أحد اليوم يستسيغ السماع إلى مذياع يبث بطريقة بدائية ومزعجة. حتى البطاريات المستخدمة أضحت أكثر تطورا مما مضى، فهي اليوم أكثر قدرة على تلبية متطلبات العصر وذكية جدا.

المذياع اليوم هو مذياع يبث عبر الأقمار الاصطناعية من حول العالم ولأربع وعشرين ساعة متواصلة من دون توقف ولا يمكن أن تصد إشارات موجات بثه أبدا، وبه تقنيات مهولة مقارنة بتقنيات المذياع القديم. ومن أجمل هذه التقنيات اليوم أن في إمكان المستمع أن يقول له: "اصمت" فيصمت، أو أن يأمره بأن يعاود الحديث فيعود... والعود أحمد!

التقنية مسرعة جدا، وهي قد تأخذنا معها إلى عوالم مجهولة جدا. مجتمعات متقدمة حرة لديها جهاز متطور لمراقبة هذه التطورات وتوظيف ما تمنحه من قدرات في مختلف أجهزة الدولة إنسانيا لا مخابراتيا لتسهيل الحياة وجعلها أكثر رحابة للمجتمع. هل من الممكن أن يوجد مثل هذا الجهاز ليطلعنا على الجديد والجاد من تطور في عالم التقنية؟ فقط نسأل

العدد 1036 - الخميس 07 يوليو 2005م الموافق 30 جمادى الأولى 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً