العدد 1058 - الجمعة 29 يوليو 2005م الموافق 22 جمادى الآخرة 1426هـ

شرم الشيخ: ذهبت السكرة وجاءت الفكرة

ليس السبب في تأخير إصدار بيان للجنة العربية لحقوق الإنسان التقاعس عن إدانة عمل إجرامي ينال بشكل أعمى سلامة المدنيين وحق الإنسان المقدس في الحياة، عمل ذهب ضحيته أكثر من 88 قتيلا ومئتي مصاب. وإنما خوفنا من انحسار دورنا إلى الشجب والإدانة من جهة، ومن تكرار المنعكس الشرطي للأجهزة الأمنية أمام هكذا حادث من جهة ثانية. فقد تحولت المملكة العربية السعودية إلى بلد بوليسي بعد حوادث العنف المجرمة التي نالت من سلامة المواطنين والأجانب فيها. وتضاعف عدد المعتقلين السياسيين في تونس بهزة قلم إلى الضعف، وعاد ملف الاعتقال التعسفي بشدة إلى المملكة المغربية، وكان يكفي الحديث عن تفجيرات "مجهولة الهوية والمصدر" في سورية للعودة إلى اسطوانة الاعتقالات اليومية للناس، أما قوات الاحتلال الأميركية في العراق، فتتسابق في حلبة إرهاب المواطن العراقي مع كل من اختار العنف وسيلة للتعبير عن برنامجه السياسي في غياب كامل للقانون والمحاسبة، في تكرار لأنموذج الدولة العبرية التي شرعت للتعذيب والسجن والمجاعة الجماعية والممارسات البربرية بحق البشر والشجر والحجر.

وليس المجال هنا للحديث في المأساة الجزائرية التي أودت بحياة قرابة ربع مليون ضحية في عقد من الزمن. بحيث يمكن تلخيص المشهد العربي بجملة مفيدة تقول إن عنف الجماعات المسلحة هو المنقذ الأخير لأجهزة الأمن العربية، التي مارست العنف دائما، بسبب وبغير سبب، بحق كل قوى المعارضة السياسية والتعبيرات الطامحة للتغيير في هذه المنطقة من العالم. فهناك، تحالف موضوعي غير معلن، بين إرهاب الدولة وإرهاب الأشباح يعزز الأمر القائم status quo ويتصدى لكل طموح من أجل عودة المواطنة والكرامة الإنسانية شرطا لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

في يونيو/ حزيران ،1979 قام ضابط في الجيش السوري بفرز العناصر في مدرسة المدفعية بحلب على أساس انتمائهم الطائفي، ثم قتل كل من ينتمي منهم للطائفة العلوية. بعد هذا الحادث أعلنت "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين" عن انضمام هذا الضابط لصفوفها ونسبت له لاحقا عدة عمليات. بل وصارت نشرة الطليعة تتحدث عنه بصيغة البطل الأسطوري الذي يظهر هنا أو هناك ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وظلما. ولم يعدم الأمر وجود من يبرر لهذا الضابط فعلته من المعارضة غير الإسلامية. اليوم يصعب أن نجد عضوا واحدا في الحركة يتبنى أفعال الضابط المذكور. لماذا جرت تغطية مجزرة ارتكبت بحق طلاب كلية عسكرية لسبب واحد هو انتماءهم الطائفي؟ لماذا تحول الضابط إلى بطل في أوساط كثيرة؟ كيف عالجت السلطة الأمنية والسياسية الموضوع؟ وهل شفيت سورية اليوم، بعد 27 عاما من هذا الحادث؟

كانت سورية تعيش ولادة جيل جديد تحت حالة الطوارئ المنتجة لأيديولوجيات الطوارئ. وكان في السلطة من يعتمد على العصبية العشائرية والطائفية في الولاءات والعداوات، وصار الحقد الطائفي عند البعض وسيلة لتعزيز أوضاع التجمع المصلحي العسكري الحاكم. قانون نيوتن الذي يجعل لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه ليس فقط في الطبيعة، بل له في المجتمعات ترجمته الخاصة. نعطي هذا المثل المؤلم بعنفه لنذكر أن إنتاج العنف في الجماعات السياسية ليس ظاهرة يمكن حصر تفسيرها بالتكوين والتركيب والوظيفة الداخلية لهذه الجماعات، وانتشاره ليس ضرورة دينية أو دنيوية. وكما أن الوباء يحتاج إلى أرض واستعداد أولي، فكذلك يحتاج انتشار العنف إلى حاضنات ووقود ونفوس قابلة للموت وقناعات لم تعد ترى في زرع الحياة بذرة صالحة للتخلص من الفساد والاستبداد.

الحرب الوقائية على العنف بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون بإطلاق يد عناصر الأمن للعبث بسلامة المواطنين باسم مناهضة الإرهاب، كما أنه لا علاقة لها، برأينا، من قريب أو بعيد، باستراتيجيات المصلحة والهيمنة. فالدولة الأمنية هي المنتج الأول للتطرف في المجتمع باعتبارها شكلا متطرفا لممارسة السلطة، وحرمان المواطن من المشاركة السلمية في الحياة العامة يخلق بالضرورة جماعات تبحث عن أشكال غير سلمية للمشاركة فيها. اللاعقلانية السياسية عند الحاكم تعزز كل النزعات اللاعقلانية في المجتمع عوضا عن إضعافها بإقامة دولة العقل باستعمال تعبير ابن خلدون والقانون باستعمال لغة العصر. غياب الحكمة والعدل من منطق الأقوى هو السبب الأهم في غياب الحكمة والعقلانية عن قطاع واسع من المظلومين.

الدولة التسلطية المعاصرة هي المصنع الذي يعد العقول ويجهز النفوس لكل الاحتمالات المؤلمة لضرب القيمة الرمزية للأشياء التي تحرم القتلة من رؤية العامل المصري البسيط يموت مجانا في شرم الشيخ في وقت أصبحت هذه المنطقة ترمز فيه لسياحة الأغنياء والأجانب ومؤتمرات السلطة والمباحثات الإسرائيلية المصرية. وهي التي تجعل الحقد قضية عامة عندما تنتهك حرمة متظاهرات يدافعن عن حقهن في الاختلاف مع السلطة السياسية، وهي التي تجعل من العنف قضية مقبولة حين تواجه بشراسة الأصوات المطالبة بإصلاحات جدية في البلاد ويدخل مئات المتظاهرين السجن لمجرد نزولهم سلميا للشارع. لا يمكن تحقيق وضع مجتمعي "وهنا لا نتحدث فقط عن إجماع حزبي أو وطني كما يقال في المصطلحات الرائجة" يرفض العنف من دون تنظيف السجون وجعل التعذيب جريمة في القانون والواقع وشعور داخلي بالحد الأدنى من المواطنة، أي احترام السلطة للناس. كذلك لا يمكن مقاومة الإرهاب بأسلحته.

* ناشط حقوقي سوري مقيم في باريس

العدد 1058 - الجمعة 29 يوليو 2005م الموافق 22 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً