العدد 1063 - الأربعاء 03 أغسطس 2005م الموافق 27 جمادى الآخرة 1426هـ

الوثيقة الدستورية النبوية لدولة الإسلام الأولى

محمد حسن العرادي comments [at] alwasatnews.com

ترى كم من المسلمين قرأ الوثيقة الدستورية النبوية أو سمع عنها، وكم من المسلمين تمعن في معاني هذه الوثيقة، ثم حاول أن يعمل بما جاء في بنودها من توجيهات وتعليمات إسلامية محمدية تحث على التسامح وتبعث الأمل في النفس حتى ليخيل إلى المرء بأن لا مجال للصراعات العنيفة طالما تمسكنا بالدعوات التي تضمنتها هذه الوثيقة المهمة المغيبة عنا من دون وجه حق! وأجد أن لا مناص من طرح هذا السؤال عن الأسباب التي جعلت خاتم الرسل "ص" يضع هذا الأمر على سلم أولويات بناء الدولة الأولى للإسلام، وفي العام الأول للهجرة، وما يعنيه ذلك من حرص على صوغ دستور يحدد الحقوق والواجبات ويضبط إيقاع العلاقات السياسية والاجتماعية والدينية بين مختلف تلاوين المجتمع اليثربي المتعدد الانتماءات القبلية والدينية، إنه القبول بالآخر واحترام حق الناس في الاختلاف، مصداقا للقول الحكيم " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" "13: سورة الحجرات".

مجتمع المدينة المنورة "يثرب" في تلك الفترة كان يضم الكثير من القبائل الكبيرة مثل الأوس والخزرج، ويجمع بين ديانات سماوية مختلفة كاليهود والنصارى والمسلمين، بالإضافة إلى الوثنيين، وعلاوة على ذلك فإن المدينة كانت نقطة اللقاء بين فئتين كبيرتين ورئيسيتين في بناء الدين الإسلامي الجديد، هما "المهاجرون" الذين تركوا خلفهم كل ما يملكونه وهاجروا مع الرسول يصدقونه وينصرونه و"الأنصار" الذين رحبوا بالرسول ومن معه من المهاجرين وقبلوا القسمة معهم في كل شيء تلبية لأمر رسول الله.

في هذه الأجواء التي تنذر بالانفجار والمهيأة للتحارب والتناحر في أية لحظة كان على الرسول العظيم "ص" أن يضع إطارا دستوريا وقانونيا، يؤسس لكيان وحدوي شامل يستطيع أن ينظم العلائق بين جميع الفرقاء، وفي ذات الوقت يقدم الوقت والفرصة المناسبة لبناء دولة الإسلام، فماذا فعل الرسول العظيم؟

لقد أجاب على هذه الأسئلة بكل سلاسة وفصاحة أستاذ التاريخ بجامعة البحرين سعيد هاشم في ندوته "الموروث الدستوري في الإسلام والعهد الحقوقي" التي استضافها المنتدى الثقافي بمأتم الحاج عباس العرادي بعراد يوم السبت 30 يوليو/تموز ،2005 موضحا بأن الدولة الإسلامية قامت في بداية انطلاقتها على ثلاثة مرتكزات أساسية هي بناء المسجد النبوي، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وصوغ واعتماد الوثيقة الدستورية الأولى في الإسلام.

وهنا فإن من الأهمية بمكان أن نتعرف على نوع المؤاخاة التي أمر الرسول العظيم بإجرائها بين المهاجرين والأنصار، فنرى أنها كانت مؤاخاة حقيقية، تمثلت في قيام الأنصار بمناصفة كل ما يملكونه مع إخوانهم المهاجرين الذين هاجروا في سبيل الله، مؤاخاة تستوجب كل شروط وعلاقات وتبعات الأخوة، بما في ذلك التوارث بين الأخوة، وهنا تتحقق المقولة العظيمة "رب أخ لك لم تلده أمك".

هل كانت المؤاخاة نوعا من المواساة يهدف إلى دغدغة العواطف واستثارتها، أم كان ذلك مظهرا شكليا أراد منه الرسول "ص" إدخال الرهبة في قلوب قريش التي كانت تعارض الرسالة الإسلامية وتقف لها بالمرصاد حتى تلك اللحظة؟

أبدا، لقد كانت واحدة من أهم لبنات البناء التي وضعها الرسول العظيم في قاعدة التغيير التي شيد على أساسها بنيان الدين الإسلامي كله، ومن خلالها أمكن للمسلمين أن يحققوا الاندماج الحقيقي ليكونوا أمة إسلامية واحدة متحدة في وجه الأعداء والمخاطر وشظف العيش الذي كان يعاني منه مجتمع الجزيرة العربية في الأجواء الخشنة، ومنذ تلك اللحظة التي تقبل فيها المسلمون الأوائل عملية التآخي زالت الكثير من الفوارق الطبقية وتساوت الانتماءات الاجتماعية، فها هو الحمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله وعم الرسول يتآخى مع زيد بن حارثة، مولى رسول الله، بل ويوصي له يوم أحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت.

ولم ينتظر المسلمون طويلا حتى كان بنيان المسجد النبوي في المدينة المنورة مشيدا ليكون قاعدة لإدارة مختلف شئون الدولة الجديدة، المسجد النبوي كان العصب الرئيسي للدولة الإسلامية، فبالإضافة إلى كونه ملتقى التعبد والتهجد وقراءة القرآن وتعلم أصول وأحكام الشريعة الإسلامية، فقد أدى المسجد دور مقر الحكم، وقام بدور وزارة الإعلام والثقافة، وأدار القضاء والأحكام الشرعية، وأصبح مبنى وزارة الدفاع والشئون العسكرية، ثم أضحى مجلسا للشورى والمشورة وتبادل الآراء، ومارس دور وزارة المالية، ووزارة الشئون الاجتماعية التي كانت تعنى بالشئون العامة للناس وتوزع المساعدات عليهم، ولم يكن بعيدا عن دور وزارة السياحة أيضا، اذ كان محط رحال كل القادمين من سفر بعيد يقصدون الدخول في الإسلام ويبحثون عن نور الهداية.

باختصار لقد كان المسجد النبوي هو الدولة الإسلامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وحين اكتمل البناء كان من الواجب أن توضع الأسس الدستورية، فقام الرسول الكريم باعتماد الوثيقة الدستورية الأولى في الإسلام، ليكتمل بذلك عقد بناء الدولة بشكل لم يعرفه العرب في تلك الفترة ولم يعهدوه.

وهنا نجد أنفسنا مدفوعين لعقد هذه المقارنة، لماذا وضع الرسول العظيم هذه الوثيقة الدستورية، ولم يقل بأن "القرآن" فيه الكفاية وهو دستور الدولة الإسلامية؟، كما يحلو لعدد من الدول الحديثة أن تنادي في هذه الأيام، للتهرب من وضع دستور دائم يحكم وينظم شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم ! هل ترى بأن هناك من يفهم الإسلام ويعرف أحكام القرآن أفضل من رسول الله "ص"؟

وقد تأخذنا علامات الاستفهام إلى أبعد من ذلك لنتساءل، لماذا لم يعترض أحد من كبار الصحابة على الوثيقة الدستورية، ولماذا لم ترتفع الأصوات منادية بعدم الحاجة إلى تلك الوثيقة بحجة أن الإسلام هو خاتم الأديان، وأن على الجميع أن يدخل إليه ويحتمي بأحكامه، ولماذا ألزم الرسول الكريم "ص" نفسه بأحكام وتعاليم مكتوبة معروفة ومتداولة بين الناس كافة؟ بينما هو المرجعية الأساسية للدين والتشريع والحكم والقضاء؟

يقول سعيد هاشم، بأن رسول الله "ص" لم يجبر أحدا على الدخول إلى الإسلام بل إنه طمأن المنتمين للديانات السماوية الأخرى، ومنحهم الأمن والأمان في إطار الوثيقة الدستورية تلك، حتى لا يأتي أحد كائن من كان فينتقص من حقوق الأقليات، أو القوميات الأخرى، وأن ذلك كان مصداقا لتوجيه رباني نزل قرآن عربي مبين، إذ يقول سبحانه وتعالى: "قل يا أيها الكافرون "1" لا أعبد ما تعبدون "2" ولا أنتم عابدون ما أعبد "3" ولا أنا عابد ما عبدتم "4" ولا أنتم عابدون ما أعبد "5" لكم دينكم ولي دين "6""" سورة الكافرون الجزء الثلاثون".

أي أن الإسلام لم يجبر غير المسلمين على التخلي عن ديانتهم أو حتى وثنيتهم، بل إن الله جل وعلا يأمر رسوله الكريم بمعاملتهم بالحسنى إذ يقول في محكم كتابه العزيز" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيه وهو أعلم بالمهتدين" الآية "125 سورة النمل"، إنها الأخلاق الرسالية التي تأدب بها الرسول الذي يقر بالقول "أدبني ربي فأحسن تأديبي" حين تتماشى مع شهادة الخالق لنبي الرحمة " وإنك لعلى خلق عظيم" "الآية 4 - سورة القلم"، هذه الأخلاق والمثل واحترام الآخرين والتعامل معهم بإحسان، جمعها الرسول الكريم وصاغها في الوثيقة الدستورية، فاحتفظ لكل أهل ديانة بحقوقهم وحريتهم، واعتبرهم ضمن حدود ومسئوليات الدولة الإسلامية، لهم ما لها وعليهم ما عليها من محافظة على الأمن والسلم والدفاع عن النفس وعن كيان الدولة الجديدة.

وهكذا نرى أن اليهود والمسيحيين وغيرهم في مدينة الرسول، كان مطلوبا منهم المساهمة في واجب المشاركة في الدفاع عن المدينة من خلال توفير الدعم المادي واللوجستي للجند، ومن خلال معاداة أعداء الإسلام، والكف عن التعامل مع من يريد إضرارا بالدولة الإسلامية، وفي ما عدا ذلك لهم الحق بالعمل والتجارة وممارسة جميع حقوق المواطنة الكاملة والتعامل مع الناس بحرية تامة في كل المجالات، ولم يمنع المسلمين من التعامل معهم في أي أمر.

وهنا لابد لنا من أن نتساءل عن السبب والمتسبب في تغييب هذا التراث الإسلامي العظيم عن أعين المسلمين طوال عقود من الزمن، وكيف توافقت إرادة الحكام في كثير من الأحيان مع إرادة المتصدين للتراث الإسلامي ونشر الوعي بأهمية التاريخ الناصع البياض للأمة الإسلامية، فاخفت عن المسلمين عن قصد أو بدون قصد هذه الوثيقة الدستورية المهمة.

ترى هل يعقل تغيب وثيقة بهذا المستوى من الأهمية طوال أكثر من 1400 سنة، وأن لا يأتي ذكر هذه الوثيقة الدستورية في خطب الجمعة أو الأحاديث التي تعقب الصلوات، أو في خطب العيد، أو في الحج أو العمرة أو حتى في المآتم الحسينية وخلال شهر رمضان المبارك المخصص بالأساس للتفقه في أمور الدين والدنيا ؟

إنه لأمر محير يحتاج إلى كشف ومتابعة من قبل الجميع.

وإذا عدنا إلى الوثيقة الدستورية النبوية لوجدناها قمة في التواضع الرسالي وشمولية في الصياغة التي يبدأها رسول الإنسانية بكلمات غاية في البساطة وسمو المعنى والذات فيقول "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم "الحال التي جاء الإسلام وهم عليها" يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم "العاني بمعنى الأسير" بالمعروف والقسط وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الولي، وكل طائفة تفدي عانيها "أسيرها" بالمعروف والقسط بين المؤمنين ....".

لاحظوا التواضع والأخلاق التي يتمتع بها الرسول العظيم، فهو لم يسم نفسه بأي من المسميات التي يتشدق بها الجاه والنفوذ الان، لقد اكتفى بالبدء بعبارة غاية في البساطة" هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين والمسلمين" أي انه عد نفسه كأي واحد من سائر المؤمنين والمسلمين، ثم أشار بشكل واضح لا يقبل اللبس أو التأويل "أنهم أمة واحدة من دون الناس" أي انه جعل الجميع أمة واحدة ثم حدد ما للمسلمين وما لغيرهم من اليهود والنصارى والوثنيين من حقوق، اعتراف واضح بالآخر وتأسيس للتعايش السلمي والتعدد المجتمعي.

ثم تنتقل الوثيقة الدستورية النبوية، لتحدد شكل العلاقة مع قريش المعتدية فتقول "وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه، وانهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين،على كل أناس حصتهم من جانبهما الذي قبلهم وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم وأن الله جار لمن بر واتقى، أنهم أمة واحدة من دون الناس".

وهنا تتجلى النظرة الثاقبة لخاتم الرسل فهو يريد أن يحدد ويحصر قائمة الأعداء في قريش ومن يناصرها في عدوانها على المسلمين، ولا يريد أن يعتبر كل من هو غير مسلم في عداء مع الدولة الإسلامية والمسلمين عموما، لذا فإن الوثيقة تطلب ممن قبل العيش في مجتمع المدينة أن يعتبر أعداء الإسلام أعداءه حتى لو لم يكن مسلما، طالما قبل العيش ضمن شروط وبنود الوثيقة الدستورية، وعليه فإن الجميع مطالب بالذود عن يثرب والوقوف في وجه من يدهمها ويتعرض لها بالأذى.

لكن هذه الوثيقة لا تجير من يظلم أو يرتكب إثما، ولا تمنحه الأمان حتى لو كان مسلما، بل تقرر محاسبتهم ومحاكمتهم مهما علا مكانهم وارتفع شأنهم، وسواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم، وتواصل الوثيقة صوغ حقوق الناس في حرية الحركة داخل مجتمع المدينة سواء أولئك الذين يشاركون في الحرب، أو أولئك الذين تعفيهم الوثيقة من المشاركة المباشرة في القتال من غير المسلمين، والذين تحدد مشاركتهم بمستويات مختلفة من توفير الدعم والمساندة وعدم التعاون مع أعداء الأمة .

ترى لماذا أخفيت هذه الوثيقة كل هذه السنين عن المسلمين وعن العالم أجمعين، ولماذا لم يقم الضالعون في مثل هذه الأمور بالاهتمام بها وشرحها، والدعوة إلى اعتمادها من قبل الجمعيات والمؤسسات والجامعات والمعاهد الحقوقية، للتعبير عن فهم الإسلام للآخر ودعوته للتعدد والقبول بمبدأ الاختلاف على مستويات واسعة جدا ؟!

وهل تلتزم الدول الإسلامية اليوم بهذه المبادئ النبوية العظيمة، ليس بين المسلمين وغيرهم، بل بين المسلمين وبعضهم البعض، سؤال يبحث عن إجابة على أيدي المختصين في الشئون الإسلامية والدستورية والحقوقية؟

ولابد من القول بأن هناك أسئلة كثيرة تبادرت إلى أذهان من حضر واستمع إلى ندوة الدكتور سعيد هاشم القيمة، والتي تناول فيها هذه الوثيقة الدستورية، بالإضافة إلى العهد الحقوقي للإمام علي بن أبي طالب "ع" الذي زود به الصحابي الجليل مالك الأشتر النخعي حين ولاه حكم مصر، وهو ما سأركز عليه في مقالة أخرى قادمة، مع جزيل الشكر والعرفان للدكتور الذي فتح لنا بابا كان مختوما بالشمع الأحمر.

* كاتب بحريني

إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"

العدد 1063 - الأربعاء 03 أغسطس 2005م الموافق 27 جمادى الآخرة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً