يسرد فهمي هويدي في كتابه الجميل "التدين المنقوص" "ص 108" قصة أجدها تناسب ما أريد الدخول فيه من موضوع اليوم. يقول: "وأثناء زيارة سابقة لبانكوك وجدت عند مسلمي تايلند مشكلة مع شيخ الإسلام الذي يرأس جمعيتهم منذ 35 عاما. فالرجل كان تجاوز التسعين من عمره "كان ذلك في سنة 1980" وأصبح عاجزا عن مباشرة مسئوليته، التي أصبحت تصرفها سكرتيرته "حبيبة" التي هي ابنته في الوقت ذاته. وهو وضع طالب ممثلو قطاعات المسلمين بتغييره، كما طالبوا بأن يكون بقاء شيخ الإسلام في منصبه لمدة محددة، يتغير بعدها.

وتقدموا بطلبهم إلى الحكومة التي تصدر قرار تعيين شيخ الإسلام، من بين زعماء الأقلية المسلمة. ولكن الرجل أبلغ الحكومة أن هذه الطلبات مخالفة للشريعة الإسلامية، وأفتى بأن المناصب القيادية في الإسلام يتولاها شاغلوها طوال حياتهم، ولا يتركونها إلا في حال الوفاة، وبناء على هذه الفتوى ظل شيخ الإسلام في تايلند في موقعه، وظلت ابنته "حبيبة" هي التي تصرف أمور المسلمين. شيخ الإسلام اختار حبيبة ابنته تصرف أمور المسلمين فلم يختلف عن أي نظام إسلامي أو عربي في أسلوب التعاطي مع السلطة... الفارق بين السلطتين أن شيخ الإسلام قام بلي عنق الفتوى لتكون لصالحه ولصالح حامية الإسلام والمسلمين ابنته "حبيبة". وهذا الشيخ الجليل قد لا تتفاجأ وأنت تراه يخطب ليل نهار مطالبا بالديمقراطية وبمبدأ تكافؤ الفرص في صلواته وأدعيته ومجالسه مستشهدا تارة بمبدأ الشورى في الإسلام وأن لا فرق بين عربي أو أعجمي أو أبيض وأسود إلا بالتقوى، لكنه ينسى في الخطبة ذاتها ابنته حبيبة التي أصبحت سكرتيرة المسلمين وستبقى ما بقي أبوها وربما تخلفه في ذلك وزادها في الحصول على المنصب أنها ابنة شيخ الإسلام.

ما أريد أن أقوله إن ما نعيبه على النظام العربي نكرره يوميا في أعمالنا ولكن بصورة أخف، وكل من خلال منصبه ومدى قوة المنصب يردد "لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك" والشيخ محمد الغزالي كان يقول: "إن حب السلطة آخر ما يخرج من قلوب الأولياء" يجب ألا نستغرق في الإدانة فنقع فيها.

ذات يوم كنت جالسا مع مثقف عراقي كان يقول: "بالأمس كنا نرفض عهد الملك فيصل ولم نترك صفة الا وصفناه بها وأخذتنا شعارات الثورة التي كان يرددها القوميون العرب والثوريون ويهتفون بنعم للإخاء للوحدة نعم للمساواة للعروبة، لكننا، اكتشفنا أن الثوريين الجدد كانوا أشد وطأ... رفعونا على أعواد المشانق وانتهت التنمية... وضاعت الدولة المدنية، إذ ابتلعتها الدولة الثورية... بالله عليك لو خيرنا بين الملك فيصل وحكم صدام أليس الأول أفضل وهل كنا سنصبح على ما كنا عليه هذه الأيام؟ وقديما قيل: الثورات تبدأ بشعارات المساواة والإخاء والحب ثم تبدأ بأكل أبنائها... ماذا فعلت الثورة الفرنسية؟ ماذا فعلت الثورة البلشفية بالرفاق؟ ماذا فعل ستالين وهتلر وصدام وكل الثوريين؟

أنا لا أدافع عن النظام العربي ولا أبرر له أخطاءه، ولكن أدعو أيضا إلى نقد الذات... الكارزمة سلطة... إدارة مدرسة أو مركز أو مسجد أيضا سلطة وكل بحسبه حتى يختبر الإنسان في عدله، في إنصافه، في توازنه. عندما يتولى أمرا فيه بريق السلطة... كان الشهيد السيدمحمدباقر الصدر يردد أمام سمع تلامذته علماء الدين "من منكم لو امتلك دنيا هارون الرشيد لما اعتقل الامام موسى بن جعفر "ع"" يوجد علماء ويوجد مسئولون ويوجد أناس عاديون لو امتلكوها لما اعتقلوه، ولكن السؤال هل كل عالم امتلك سلطة لن يعتقل الإمام موسى بن جعفر "ع"؟ تاريخ الدول الثيوقراطية يعزز نظرة السيدالصدر، واقرأ التاريخ جيدا ولا داعي إلى التفاصيل، فكما يقول الإنجليز "الشيطان يكمن في التفاصيل". يجب ألا نرفع شعار الديمقراطية ونحن نمارس قمع الآخر... لا أحد يبحث عن عقول ولا عن أذهان ذهبية أو أدمغة فضية... أكثرنا يبحث عن أدمغة حمير... عن أتباع يضع عقولهم في ثلاجته الخاصة يشويها اذا احتر ويجمدها إذا أراد أن يعوم.

سؤال مهم: هل يوجد مثقف عربي أو رجل دين عربي أو حزب عربي يقبل أن تخالفه في الرأي من دون أن يضعك في اللائحة السوداء لحاشيته على أقل التقادير؟

يوجد ولكنهم قلة، قليل من يقبل أن تناقشه في أدائه وخطواته وفي فكره ولو كنت حضاريا في النقاش... قليل من يقبلون أن يمنحوك عقلك من الثلاجة لو أنك طلبته. تلك حقيقة ان منا لو ترأس إدارة مزرعة دواجن سيقمع الآخرين. والسؤال: ماذا فعل المجاهدون الأفغان بعد رحيل الغزو الشيوعي؟ تقاتلوا على السلطة ونسوا الوطن.

إذا شيخ السلام في تايلند كان يبحث عن حمير بلا عقول، لأجل عين ابنته حبيبة