العدد 1112 - الأربعاء 21 سبتمبر 2005م الموافق 17 شعبان 1426هـ

مورفين التفسير... وفرض العالم... العقل والإيمان

الأداة وحدها اختلفت. .. أداة إشاعة الإرهاب، بالأمس كانت سيفا... خنجرا... سهما... ووسيلة الوصول دابة... صارت اليوم سيارة يستقلها إرهابي متحزم بطوق من المتفجرات. التفكير لم يطرأ عليه أي تغيير... لم يغير استخدام شبكة المعلومات لنشر حصيلة "الغنائم" من القتلى والجرحى في ذهنية قتلة اليوم ذرة من قناعة... كأنهم جاءوا من مجاهل التاريخ، أو من سحيقه... من الأسود، والقاتم، والدامي منه بالتفكير نفسه والتحشيد والتأجيج والأدلجة نفسها... بذات المورفين الذي يتعاطونه: مورفين التفسير لنصوص هي بريئة كل البراءة من فهم يشطب عالم ومكان وعقل وإيمان ما عداه، ليبدأ من أول السطر في فرض عالمه، ومكانه، وعقله، وإيمانه هو.

ذهنية التفخيخ

حاجة العالم اليوم تتركز في عقل... ذهنية تتحكم في شكل ودور الآلة، بحيث توجهها نحو مزيد من تأكيد محورية الإنسان في أي تغيير، فيما ذهنية "التفخيخ" والبيانات من وراء حجاب، تعمل اليوم على نقض كل منجز يؤدي إلى تأكيد تلك المحورية. ذلك يحيلنا على "بيان 5 يونيو/ حزيران 1967" لـ "أدونيس"، والذي نشر في مجلة الآداب اللبنانية: "ولكن... هل استخدم السيارة حقا، أم انني استخدم فرسا من حديد؟".

اختزال نعيم الجنة

لكأنهم بما يحدثون من رعب وخراب وخسف ونسف قد تقمصوا تجارب من سبقهم، قرأوها وتمعنوا فيها أكثر من قراءتهم وتمعنهم في كتاب الله، الذي يدعون - إفكا وبهتانا - انهم ينطلقون منه... إذ يكفي أن أولى دعوات القرآن كانت القراءة في مجتمع لا قبل له بها، ونبي الأمة "ص"، لم يكن يقرأ ولا يكتب، ما يعني بالدرجة الأولى، التدبر والتبصر والتأمل. بمعنى القراءة في جانبها القيمي والأخلاقي والتأملي في الحياة ، ومن ثم تأتي قراءة الكلمة. لكأنهم يتقصون نصوص ما يؤدي الى نسف الحياة طمعا في جنتهم الخاصة التي لا علاقة لها بجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، لا للقتلة، جنتهم التي يسعى اليها بعضهم ضمن نوازع جنسية لا يخفونها بتبسيط وتسخيف واختزال نعيم الجنة بعشر من الحور العين، مثلما فعل أحدهم قبل ثوان من تسجير نار حقده: 10 ثوان، وأعانق الحور العين! ثمة تصنيف رائع لسيد المتكلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "ع" يقول فيه: "ان قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا، فتلك عبادة الأحرار".

وجبة من رصاص

لكأنهم قرأوا إجراءات دقيقة لم يحط بها علما كثيرون، عمد إليها أدولف هتلر: في العام 1933 أمر هتلر بأن يبتلع المؤلف ارنست تولر كتابه الذي وضعه ضد النازية - الكتاب في 470 صفحة، وظل يبتلع صفحاته حتى مات! وذلك ما حدث لأحد الذين قاده قدره ليقع في قبضة الجماعات الإرهابية التابعة للزرقاوي، حين افرغوا مادة الرصاص من الطلقات وأجبروه على ابتلاعها. الضحية كان خفيرا لمركز تجنيد، نجا بأعجوبة بعد أن أفرغ طلقاته باتجاه الجماعات الإرهابية، ليقع في قبضتها بعد 22 يوما من الواقعة. أي نص في كتب الأرض يشرع المثلة ولو بالكلب العقور، لتعطي تلك الفئة الضالة لنفسها الحق في ممارسة ما يتجاوز المثلة باسم الله؟

حفلات الشواء في الهواء الطلق

ما تفعله السيارات المفخخة باللحم البشري، يفوق أي تصور... هي بمثابة حفل شواء في الهواء الطلق بالنسبة إلى الإرهابيين... نزهة وعربدة على حساب الآخرين، ثمة تتبع لحفلات الشواء تلك، ولو من بطون كتب التاريخ: يروى أن طاغية اغريغنتم، فلاريس، وهي من أعمال صقلية، وكان طاغيتها نحو العام 565 ق.م، كان يشوي السجناء من أعدائه في مملكته بأن يضعهم داخل ثور نحاسي ضخم، ثم يوقد تحته نارا هادئة، وتوضع قصبتان تشبهان المزمار في منخري الثور بطريقة فنية بارعة، بحيث تتحول أنات السجناء وصرخاتهم حين تصل الى أذنيه الى نغمات وألحان شجية. يقابل ذلك بيانات الإرهابيين من الفئة الضالة على شبكة الإنترنت التي تبدأ بنشوة وسكرة إصابة أهدافها السقيمة، من دون أن تنسى تلك الفئة أن تبسمل قبل أن تبدأ مجازرها، تماما مثلما يفعل بعض اللصوص الذين يبدأون بالبسملة قبل كسر الخزائن وتفريغها من محتواها، وهو نفس ما أشار اليه كورتلين: حتى اللص عندما يضع المفتاح في ثقب الخزانة ليسرق يقول: بسم الله!

في صراع النار والماء

نتعلم من أبي العلاء المعري: "إذا غمس القوم أيديهم في الدم، فاغمس يدك في ماء الغدير". نتعلم من أحدهم وبصورة مغايرة: "قالت أم الدرداء لأحد الخلفاء: بلغني أنك شربت الطلى بعد العبادة والنسك، فقال: أي والله والدماء أيضا شربتها! نتعلم من ألبرت اينشتاين: "العلم من دون دين كيان أعرج، والدين من دون علم عمى". نتعلم من كلمنصو: "ينبغي ألا تقام التماثيل إلا للأنذال، فالشرفاء يحترزون منها". نتعلم من مثل إسباني: "في صراع النار والماء، تموت النار دوما". نتعلم من فريدريك تيرنر: "لا يوجد شيء أكثر هشاشة من القوة". فما الذي تتعلمه تلك الفئة الغارقة في ظلاميتها، سوى ما يتعلمه قطاع الطرق، والمفسدون في الأرض، وعصابات السلب والنهب من بعضها بعضا؟ ما الذي يتعلمه من وقع تحت تأثير المخدر، سوى أن يعيش نشوته الكاذبة، وتحليقه الساقط، وهلوساته وسلوكاته التي تمجها حتى البهائم؟ ما الذي تتعلمه تلك الفئة التي تركت النص، وتكالبت على سقيم الهامش، وعربدات بعض الفهم والجهل الصارخ في التفسير؟ فئة تريد - كذبا وبهتانا - لشرع الله أن يسود ويحكم، فيما هي تقيم طقوس جاهليتها، وتولي وجهها شطر أوثان نصبتها، أوثان من لحم ودم، تولي الأدبار، ناكصة، لتبث وعدها ووعيدها من مغارات وجحور في الطرف القصي من الأرض؟

التوابيت الطائرة والصورة النمطية

لم تعد الصورة النمطية "stereotype" التي رسمها الغرب لنا بحاجة الى الوقوف ضدها! إذ ثمة من سهر وعمل من بني جنسنا، وديننا، وجغرافيتنا على تجاوز ما وقفت عنده، بمزيد مما لم تكن الصورة تحتويه بأضعاف مضاعفة... صورة من لا يسره ولا يشعر بطمأنينة واستقرار ما لم يحل هذا الكوكب الى مأتم كوني، تسري فيه أصوات الصراخ، وتنهمر من جنباته أنهار من الدم، وجبال من الأشلاء. منذ "التوابيت الطائرة" التي عمدت إلى برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، في 11 سبتمبر/ أيلول العام ،2001 فأحالته هشيما محتضرا، ومنذ خسف مدريد، وطامة قطارات الأنفاق في العاصمة البريطانية "لندن"، أصبح العربي والمسلم في الأدبيات العنصرية الغربية، صاحب أفق جهنمي في قدرته على الخراب وإشاعة الرعب، أفق يتجاوز بمراحل كبيرة الأفق التخيلي الذي بلغته المدنية الغربية على أكثر من مستوى في جانبها المضيء والمنتج... أفق قادر على إرجاع كل تلك المنجزات الإنسانية إلى ما قبل نقطة الصفر... إلى ما قبل تدوين التاريخ... إرجاعها الى سيرتها الأولى، إذ كل شيء في أول خرسه وظلاميته وانشداده إلى المكان، لا يقوى على خيال من حراك... صورة لن يجدي معها ضخ أموال على إعلام يقطع بث حصيلة العمليات الإرهابية التي تقود العالم إلى انهيار عصبي، بفاصل إعلاني لنانسي عجرم وشراب الكوكاكولا! لن تتغير الصورة - وضمن حدودنا في الداخل - تجاه هذا الانفلات في الضمير والأخلاق والقيم من قبل فئة هي على استعداد لأن ترسل سكان كوكب الأرض في توابيت جماعية إلى محرقة تسجرها آناء الليل وأطراف النهار، كي تحتل مكانها - كذبا ووهما وأضغاث أحلام - في الجنة! وما دامت الصورة بذلك المستوى القابل للتعدد والابتكار ومضاعفة الرعب فيها - ضمن حدودنا... ضمن أبناء اللغة والدين الواحد - عبر ممارسة لا يبدو أنه سيتاح لها فضاء من مراجعة، فمن الصعب أن نطالب الآخر بأن يعيد النظر في تلك الصورة، ولن يقوى إعلامنا على ذلك، مادام عاجزا عن التوقف عن التسبيح باسم المتناقضات، وعن التهليل للمصادرات بكل أشكالها وصورها، وعن الهتاف للأنظمة كي تمعن في مزيد من اثخان جسد الأمة باحتضان شذاذ الآفاق، وما دامت بعض الجمعيات تتستر باسم الخير، فيما هي تقتطع جزءا من حقوق الفقراء والمعدمين كي يمول به حزام ناسف، وسيارة مفخخة، وكي يسمن إعلام تلك الفئة في جحورها. الصمت نفسه ضالع في الصميم من هذا الخسف، والإبادات اليومية، والتحريض على القتل، ضالعة فيه أسماء تنتفخ أوداجها بحمية زائفة، وتتبرأ من أصولها، بالانتساب عنوة إلى عروبة لم تعد تغري أحدا بالانتساب إليها ضمن واقع حال يشير إلى ضرورة انقراضها، بل هي فعلا في طريقها إلى ذلك





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً