العدد 1114 - الجمعة 23 سبتمبر 2005م الموافق 19 شعبان 1426هـ

ممر الموت

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

في لقاء جميل جمعني رئيس المركز العربي للتربية على القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، محمد أمين الميداني، بستراسبورغ في فرنسا، نقل لي أنه شاهد مسرحية أو تمثيلا يتحدث عن الموجودين في ممرات الموت، ويقصد بهم "السجناء المنتظرين لتنفيذ عقوبة الإعدام بهم بعد صدور الحكم عليهم"، غير أنه أدرك المعنى بتمامه وجدانا، حين كان في زيارة استكشافية ورقابية مرتبطة بطبيعة عمله الإنساني الكريم، لأحد السجون في عالمنا العربي الكبير. يقول الميداني: التقيت بمجموعة من المساجين المحكومين بالإعدام، الذين يتوقعون إعدامهم في كل لحظة، وتحدثوا إلي عن مشاعرهم الداخلية، فبعضهم مرت عليه سنوات كثيرة وهم في هذا الممر المرعب. ويضيف انهم نقلوا له أن السجانين يقدمون كل يوم ويفتحون الباب الجامع لكل المساجين، ثم يتجهون في سيرهم يمنة ويسرة إلى أن يروا الشخص المراد والضحية المطلوبة، ونحن قلوبنا تخفق خوفا إذ يتوقع كل واحد منا انه هو المطلوب لوجبة الإعدام. ويتابع الميداني قائلا: إن السجانين يأخذون ضحيتهم إلى زاوية لا يراها المساجين بأعينهم، لكنهم يسمعون كل ما يدور هناك، بدءا من لف الحبل حول عنق الضحية وانتهاء بفتح الباب الذي يقف عليه، لقد كان الصوت القوي والمرعب الذي يصدره الباب حين فتحه ليتدلى المعدوم بالحبل الملتف حول عنقه هو الأشد والأصعب بين كل ذلك المشهد المخيف بمجمله. يذكر أن المؤسسات والمنظمات التي تعنى بحقوق الإنسان، مارست ضغوطا متوالية على الدول التي تعامل المحكومين بالإعدام معاملة غير إنسانية، وطالبتهم بتحسين المعاملة واحترام الإنسان حتى حال محكوميته بالإعدام. لقد أكدت هذه الهيئات والمنظمات عبر دراسات مستفيضة، أن هؤلاء السجناء لا يتمتعون بحال نفسية جيدة، فلو أسعد الحظ أحدهم وخرج من السجن، فإنه لا يخرج سويا في غالبية الأحيان، بل يقبل على المجتمع معقدا كارها للحياة، تفتك به الخيالات، وتلاحقه الكوابيس، وتداهمه أخطر الأمراض النفسية. على نسق هؤلاء المنسيين في ممر الموت، هناك في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ما يستعصي على العد من الفتيات والشباب الذين يمضون زهرة شبابهم وهم في ممر اليأس والإحباط، يعتصرهم الألم وتقتلهم اللحظات الموحشة. خذ على ذلك مثالا: المتخرجون من الجامعات، الذين ينتظرون فرص التوظيف منذ زمن طويل، إنهم يشعرون بالزمن يمر سراعا، ويرون الأيام تزدلف متعاقبة، وهم متفرجون لا يملكون لأنفسهم نفعا، في حين يتضاعف الضرر عليهم كلما مرت الأيام، وهي لا تحمل لهم بشارة العمل والوظيفة. إن الأذى النفسي الذي تسببه لهم عبارات ذويهم القاسية صعب الاحتمال، كما أن شعورهم بعبثية العيش من دون فاعلية يقدمونها لمجتمعاتهم، أو خدمة يسدونها إليه مما تتوافر عليه خبراتهم العلمية والدراسية، تصنع منهم جلادين أشداء على أنفسهم، يجلدونها بالخيبة والحسرة، وقصر اليد، ومهما امتد البصر وتطلع للأعلى، فالمستقبل في أعينهم مظلم وكئيب. هذا المعبر الضيق والحال الصعب لا يختلف فيه هؤلاء عن مجاميع الطلاب والطالبات الذين ينهون دراستهم الثانوية ثم ينتظرون القبول الجامعي بقلق بالغ. إنها مأساة تقتل الأمل والطموح، وتنهي حال التطلع من النفوس، قبل أن يصفعها الزمن بالرفض وعدم القبول. لقد نال الموجودون في ممر الموت تعاطفا كبيرا، كان عماده الأول المنظمات والهيئات الإنسانية، وأدرجت مأساتهم في المقدمة لتكون مطلبا إنسانيا له من يدافع عنه ويتبناه، فهل لقي الموجودون في ممرات الإحباط واليأس من يسعى لرفع معاناتهم، والدفاع عن حق من حقوقهم، وهو حقهم في العمل والحياة الكريمة، وحقهم في التعليم من أجل تنمية أفضل؟ وهل وجد هؤلاء بحق من يتظلم لهم، ويحمل رايتهم كي تصل معاناتهم إلى طاولة الحل؟ أم أن قضيتهم بعد لم تصل إلى الحد الذي تعتبر فيه معاناة إنسانية وإعداما بطيئا. في تصوري اننا نخدع مجتمعنا ونتغافل عن هؤلاء المنهكين، وأحيانا نبرر ذلك بأن البطالة "مثلا" وانحسار فرص العمل أصبحت قضية عالمية، وفي هذه النقطة تماما ننسى أن للدول الأخرى رعاية تتكفل بموجبها بقسط كبير من حاجات الفرد بحيث يتمكن من تأمين غالبيتها. ولو أحسنا الظن، وأقنعنا أنفسنا بأننا لا نشعر بمأساة هؤلاء على هذا النحو، فالضرورة تقتضي أن نسلط الضوء بكل ما نملك من وسائل يتصدرها الإعلام بمختلف ألوانه من كتابات ومسلسلات اجتماعية، ومسرحيات هادفة، ودراسات جادة، حتى تأخذ القضية مكانتها الحقيقية، وتصبح هما اجتماعيا يفرض ضرورة حله على كل الدوائر والمؤسسات الحكومية في المقام الأول، مع التعاون الضروري المتوقع من المؤسسات الأهلية. لابد وأن نصل إلى الحقيقة المرة وهي أن هناك من يتعذب بيننا ويموت يوميا مئات المرات، فلا يمكن للإنسان أن يشعر بذاته، ويعتد بنفسه، ويفخر بها إلا إذا وجد نفسه مثيلا لأقرانه في الموقعية والمشاركة، وذلك معاكس تماما لإهماله وتحطيم شخصيته، كما انه مغاير لهذا التعامل الطارد من الأسرة الاجتماعية، فبطالة الإنسان تعبير عن عدم حاجة المجتمع له، وهذا أشد أنواع العذاب ألما للإنسان. والحل هو الجهد المدروس والجاد، والتخطيط الواعي الذي يربط المقدمات بالنتائج، والقدرة على تشخيص الاحتياجات المستقبلية للبلاد بمزيد من الدراسات المتخصصة، كي يمكن استيعاب مخرجات كل مرحلة ضمن المرحلة التي تليها، وإشراف ذوي الخبرة على كل هذه العملية. كل ذلك يمكن أن يكون بديلا، عن القرارات الارتجالية، والخطوات العشوائية، والنظرة المستعجلة التي تسكن الماضي، ولا تعي الحاضر فضلا عن المستقبل. هذا ما يمكن أن يشكل نهاية قاطعة لهذه الممرات، وإلا تضاعفت أعداد التائهين، في الممرات الانتقالية بين المراحل، والمنتظرين لحظهم المتعثر.

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1114 - الجمعة 23 سبتمبر 2005م الموافق 19 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً