أحمد ناصر الفيلي - كاتب وصحافي من العراق، والمقال ينشر بالتعاون مع مشروع منبر الحرية
31 أكتوبر 2010
لاتزال غيوم الخلاف والاختلاف تضلل صورة المشهد السياسي العراقي الذي بدا يغلي في مرجل تضارب التصريحات المتناقضة مع إيقاع حركة الأحداث واتجاهاتها، بدلا من تعميق مساراتها التفاوضية عبر مقاربات فكرية ورؤى واضحة موضوعية ترسم الشكل الأساسي لمستقبل البلاد السياسي وفقاً لقواعده وأعرافه السياسية والديمقراطية الجديدة.
تناقض المواقف وضديتها تعكس ضعف البدائل المطروحة من جهة، وضياع شكل المرونة المطلوبة، فضلا عن غياب الرؤية المستقبلية الواعية التي تقفز فوق الرغبات والاتجاهات الواحدية، وتتخطى الحواجز الضيقة وهي إحدى المتطلبات الأساسية للمرحلة الراهنة، الغائبة عن قلب المسرح السياسي المتخم بأشكال الألاعيب السياسية المختلفة المفتقرة لأرضية رصينة يمكن أن تبنى عليها القواعد والمقبوليات والتراضي، فالتلويح بأوراق ضغط متنوعة ومتعاكسة سمة التباري السياسي الحالي وشكله الفضفاض.
والحقيقة أن افتقار المسار السياسي إلى جملة مبادئ منطلقة من روحية البناء الديمقراطي ومصالح البلاد أدت إلى انهيارات جليدية على أكثر من صعيد وجبهة، فالمفروض أن تكرس القوى السياسية على اختلاف تلاوينها جل جهودها باتجاه بناء البلاد، وتعافيه من جروحه وآلامه وعديد أزماته المتفاقمة، إلى جانب إعادة البنية المجتمعية المنتهكة على أكثر من محور قيمي وأخلاقي واجتماعي، ومده بأسباب التعافي القادرة على خلق حوافز ذاتية لضمان مشاركته الفاعلة في حركة البناء والتغيير ومنحه مرونة التبادل بين الفرد والمحيط، بغية استيعاب طبيعة التحولات الممهدة للتفاعل الجدي والحقيقي بما ينعكس آثاره وتداعياته نحو خلق حركة نهضوية لانتشال البلاد من حضيض مستنقع الفقر والجهل والمرض والتخلف.
إن أخطبوط الأداء السياسي المتمترس خلف واجهات وشعارات شتى، قد مد أخاديده في زوايا المجتمع، لا لأجل تحفيز منطلقات الوعي الوطني، وإنما لتكريس سياسات تهدف إلى مصالح جهوية ضيقة احتلت جزءًا من تاريخ الأداء السياسي للماضي المفوت البغيض، والتي أدت تراكماتها الصدئة إلى جر البلاد نحو ويلات وكوارث ماحقة، أضاعت الثروات الطبيعية والبشرية، وزرعت تكسرات اجتماعية ستكلف عملية ترميم بنائها التاريخي، وغسل أدرانها آماداً ليست بالقصيرة.
إن ظاهرة التوجه نحو الفئات، والطبقات، وأنماط التراتبية المجتمعية، ومحاولة تعبئتهم لأضيق الأهداف المصلحية وبالضد من التوجهات العامة وبما يخلق أجواء التوترات المقلقة المنذرة بسوء العواقب، ظاهرة سياسية قديمة - جديدة في التاريخ العراقي، وإذا ما استمر الساسة الجدد بلعبة العبث، لعبة تجديد الموبقات السابقة، فستشكل عقبة صعبة ومعقدة على طريق التنمية السياسية المنشودة.
إن تبني أشكال السياسات المستندة إلى استراتيجيات مختلفة ومتنوعة، لكنها على درجة من الفهم الديناميكي القادر على اجتراح آليات خلاقة تطرح أكثر من معادلة جديدة تهتم بخلق شتى التجاذبات المجتمعية والنخبوية، مما ينبئ بالخروج من تجربة رصينة معززة بالخبرات، وبقدر ما يتم التوغل أفقياً وعمودياً في شكل هذه السياسات بقدر ما تطفو على السطح أولى الثمار الناضجة، بدلا من جر المجتمع وزجه في صراعات خلف أهداف انتهازية ونفعية وتضادية، في محاولة لمصادرة الأهداف العامة لصالح أهداف جزئية وفئوية لعينة، والتي تلعب دور البكتريا في الجسم المريض، وهي بكلية الأمر جزء من سياسات بالية ترجع بتاريخها إلى عهود الاستعمار الغابرة، ويبدو أن الساسة الجدد بات يزعجهم الاتعاظ من دروس الماضي، ولا يكلفون أنفسهم عناء قراءة التاريخ بوعي.
سبع سنوات عجاف مرت كسنين النبي يوسف في مصر، ولاتزال البلاد في حقبة ما بعد الدكتاتورية غافية على شواطئ النسيان والإهمال، وتداعيات معدلات الفساد التي هبطت إلى أسفل درك، وعلى نحو مخجل أساء إلى تواريخ نضالية لعديد القوى والأحزاب، والتي أفرغ الأداء السياسي والحكومي لها، الشيء الكثير من محتوى مضامينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا شيء جديد سوى الدوران في حلقة الصراعات السياسية الجارفة والفارغة من أي محتوى، والمعبرة عن لغة الامتيازات، فامتيازات الصفوة أو النخبة هي شكل البيروقراطية الجديدة التي تجتاح البلاد من كل صنف ولون وحيث كل يبكي ليلاه على حساب الوطن.
ضياع البرامج الملتزمة وانعدام تحديد الأولويات هو التوصيف الأنسب لحركية الأحزاب والقوى السياسية المتصارعة التي تعودت أن تظهر عكس ما تبطن.
صراع السلطة، وتراخي لغة الاتفاق والبناء السياسي البناء، لحساب مشاريع سلطوية رخيصة تعكس أزمة بنيوية وسياسية حادة، وذهنية مفتقرة لمجموعة روابط سياسية قائمة على قواعد وطنية قادرة على لعب دور فعال في صياغة مشاريع وطنية سياسية وتنموية حاضنة لكل القوى السياسية، مع مقاربة لخطواتها وحركتها، مما يطلق شارة انطلاق عجلة الدوران الجديدة نحو فضاءات رحبة ترسم شكل المنافسة السياسية، بعيداً عن أنماط الصراعات التناقضية المتحولة بحتمية حركة التاريخ إلى صراع بقاء ووجود وفناء، لتهدد وتسحق أية حيوية نابضة في حركة المجتمع وقواه السياسية، إلى جانب تراكماتها وإرثها ذات التاريخ الموجع والسيئ في الذاكرة الجمعية.
الذاكرة والمذاكرة السياسية الجديدة بحاجة إلى شحن وطني جديد، يمنحها القوة والقدرة على التواصل مع أشكال الحياة الجديدة وترسم للمستقبل العراقي خطوطاً عابرة لأزماته ومعاناته، وتؤسس لثقافة وطنية متأصلة وأصيلة تمتلك مفاتيح السؤال والجواب، لحزم الأسئلة المثيرة للدهشة والارتياب المانعة لشد اللحمة الوطنية ومد خيوط التعايش البناء وكفى الله المؤمنين شر القتال.
العدد 2978 - الأحد 31 أكتوبر 2010م الموافق 23 ذي القعدة 1431هـ