العدد 2426 - الإثنين 27 أبريل 2009م الموافق 02 جمادى الأولى 1430هـ

اللغة والهوية الوطنية...

محمد علي الهرفي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

استمعت إلى الكلمة التي ألقاها أمين الجامعة العربية عمرو موسى في مؤتمر القمة الأخير في قطر فلفت انتباهي حديثه عن أهمية اللغة العربية ووجوب العناية بها باعتبارها تعبّر عن هوية الأمة العربية، فحمدت له هذا القول لأنني أوافقه على مكانة اللغة وأهميتها لكل عربي.

ثم استمعت بعد ذلك إلى الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في الكنيست بمناسبة توليه رئاسة الوزارة، فلفت انتباهي تباهيه بقومه وقوله: إنهم أمة الكتاب، وأن الطلاب الصهاينة يعدّون في المرتبة العاشرة بين طلاب العالم، وأنهم جميعا يفخرون بلغتهم.

حمدت له هذا القول؛ فمن حقه أن يفخر بلغته لأنه يدرك أهميتها بالنسبة له ولكل اليهود في العالم، وقلت: ليتنا نفعل كما فعلوا!

لماذا يهتم اليهود بلغتهم؟ ولماذا تفاخر كل أمة بلغتها؟ ولماذا نحن - أمة العرب - نشعر بالخزي من لغتنا مع أنها أعظم اللغات؟

اللغة العبرية لغة ميتة، ولم يكن لها وجود على الإطلاق قبل قيام الدولة الصهيونية، لكن الصهاينة أدركوا أنهم لا شيء بدون لغتهم، وكانوا يقولون: إن الربّ يتحدث اللغة العبرية، فهي - حسب اعتقادهم - لغة مقدسة، أحيوا هذه اللغة الميتة مع قلة عددهم، وجعلوها لغة التعليم في جامعاتهم، وأنفقوا الكثير لكي يترجموا كل العلوم التي يحتاجونها إلى لغتهم، ولم يتجهوا إلى لغة أخرى لكي تكون بديلا عن لغتهم، وهذا الموقف جعلهم يرتبطون بهويتهم القومية والدينية، كما جعلهم يبدعون في علومهم بكل أنواعها ويتقدمون على كثير من سواهم.

الذي أعرفه أن كل أمم الأرض تتحدث بلغاتها، وتعلم أبناءها بهذه اللغة، إلا الأمة العربية فهي وحدها التي لا تفعل ذلك، والذي أرجحه أن هذا هو سبب ضعفها وتخلفها في سائر العلوم، بل وارتباط بعض أبنائها بثقافة الغرب والتبعية له في بعض الأحيان.

أليس من المستغرب أن تجعل معظم جامعاتنا العربية اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس الأساسية في معظم كلياتها؟ أليس من السذاجة أن يقال: إن السبب في ذلك عدم توافر المراجع باللغة العربية، وأن معرفة أبنائنا باللغة الإنجليزية من أهم أهداف التعليم؟

لماذا العرب وحدهم يقولون ذلك؟ لماذا لم نسمع أن أي دولة مهما قلّ عدد أبنائها، وصعبت لغتها، وقلت إمكاناتها المادية يطرحون مثل تلك الحجج الواهية لاستخدام لغة تعليمية غير لغتهم الأصلية؟!

يستطيع أبناؤنا أن يتعلموا أيّّ لغة تصلح لهم، سواء أكانت الإنجليزية أم سواها - وأنا أشجع كثيرا على ذلك - ولكن على ألا تكون تلك اللغة هي الأساس ولغتهم الأم ثانوية لا قيمة لها عندهم.

من واجب كل الجامعات أن تقوم بواجبها في ترجمة كل الكتب العلمية التي يحتاجها الطلبة في الجامعات وتقدم لهم بلغتهم، وهذا ما تفعله كل دول العالم، وبمثل ذلك حققت النجاح.

وهنا أحمد للحكومة السورية والعراقية (قبل الاحتلال) أنهما كانتا تدرسان طلبتهما باللغة العربية وفي كل التخصصات، وأثبت الواقع أن خريجي جامعاتهم من أفضل الطلاب وأكثرهم كفاءة وتميزا.

وأعرف - مثل غيري - أن أبناءنا الذين يدرسون بغير لغتهم يقضون معظم أوقاتهم مع القواميس، وأنهم لا يكادون يفهمون ما يقوله أساتذهم أثناء شرح المواد، وأن منهم من يغش في مواصلة دراسته بسبب صعوبة اللغة وعدم تفاعله معها.

ومصيبتنا في بلادنا لا تتوقف عند حدود الجامعات بل تعدتها إلى المدارس، فبعض الدول العربية تعلم الصغار بغير لغتهم، فينشأ هؤلاء غريبين على ثقافتهم لا يكادون يعرفون منها شيئا، وكل مرتبط بثقافة البلد الذي درس لغته، والابتعاد عن الثقافة ابتعاد عن الدين وعن الهوية وعن الانتماء الوطني الحقيقي، ولك أن تتخيل ماذا سيحصل لبلد أبناؤه أبعد شيء عنه!

وتكبر المأساة في دول تجعل اللغة الإنجليزية هي الأساس في مكاتباتها، وفي شركاتها، وفي عقودها الداخلية بين أبنائها مهما صغر حجم هذه العقود مثل عقد استئجار منزل - مثلا - وكأن لغتهم تعجز عن استيعاب هذه المسائل، ولعل الذي يفعل ذلك يخفى عليه أنه يوجه رسائل مباشرة لأبناء بلده بأن ثقافته لا قيمة لها أمام الثقافات الأخرى... وهنا هل سيحترم هؤلاء الأبناء بلدهم بكل ما فيه وهم يتغنون أنه متخلف حتى في أبسط الأشياء!

أما الفنادق - مثلا - فحدث عنها ولا حرج، فكل العاملين فيها لا يتكلمون بلغتهم، وجرّب أن تتصل بفندق في أي مكان في بلادنا فستستمع إلى محدثك وهو يجيبك بغير لغته ولغتك! أي مصلحة في ذلك؟ هل رأيتم أي دولة في العالم تفعل مثل ما تفعل في كل بلادنا العربية؟

ثم التفت إلى اللوحات التي تملأ الشوارع فسترى أن الإنجليزية - غالبا - هي المتصدرة وكأن كل فرد في المجتمع لا يعرف إلا هذه اللغة، ثم التفت إلى اللوحات المماثلة في أي بلد في العالم فهل سترى كلمة عربية على لوحاتهم؟!

هل الأجانب هم الغالبية العظمى في بلادنا العربية؟ لا بكل تأكيد، وهل العرب ليس لهم وجود في أي بلد أجنبي؟ لا - أيضا - فهم موجودون، فلماذا لا يتلتف إليهم أهالي تلك البلاد ويرون أن من واجبهم معرفة لغة البلد التي يعيشون فيها ولماذا لا نفعل الشيء نفسه؟!

إنني أعتقد أن واجبنا الديني والوطني أن نجعل ارتباطنا بلغتنا في أفضل حالاته، وأن نجعل هذه اللغة هي الأساس في كل المراحل التعليمية، وفي سائر تعاملاتنا اليومية.

علينا أن ندرك أن اللغة ليست وعاء للحديث فقط بل هي منهج الحياة بأكمله لكل واحد منا؛ هي التي تربطه بدينه وثقافته وعاداته وتراثه العلمي كله، فإذا فقد لغته فقد ذلك كله، وبقدر ضعفها في نفسه بقدر ضعف ذلك في حياته.

إنه ليس شيء أخطر على الأمم وأسرع لسقوطها من خذلان أبنائها للسانها، ورغبتهم في ألسنة الآخرين!

إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"

العدد 2426 - الإثنين 27 أبريل 2009م الموافق 02 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً