العدد 1150 - السبت 29 أكتوبر 2005م الموافق 26 رمضان 1426هـ

تقرير ميليس يخدم حسابات واشنطن

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

تحول لبنان قبل ساعات من صدور تقرير ميليس إلى بلد ساخن من جديد، وعادت بعض المظاهر التي عرفها اللبنانيون عند بداية الحرب الأهلية في أبريل/ نيسان . 1975 فقد انتشرت مصفحات قوى الأمن الداخلي وعشرة آلاف جندي في بيروت وكأنها في حال طوارئ. كما اتصل أولياء الأمور بإدارات المدارس للاستفسار بعد أن سرت شائعات بتعطل الحياة في المدينة. المخاوف في محلها، فتقرير ميليس تسبب في هزة سياسية في الشرق الأوسط، ومن شأنه أن يؤدي مرة جديدة إلى خلط الأوراق وفي أسوأ الأمور إلى موجة عنف جديدة. على رغم أن التقرير وجه اتهامات خطيرة إلى الرئيس اللبناني إميل لحود ومجموعة من معاونيه، فإن لحود الذي يعود الفضل بوجوده في منصبه اليوم لتدخل سورية، لم يفقد الأمل بعد في أن تبرأ ساحته، وهكذا يشعر كثيرون في لبنان وسورية. ومن البديهي أن ينشط السوريون في نفي الاتهامات التي يتضمنها التقرير ويعتبرونها مقلبا سياسيا للنيل من بلدهم، فيشيرون في هذا الصدد إلى أن التقرير عبارة عن إعلان سياسي يستهدف بلدهم ويستند إلى اتهامات وجهها خصوم سورية في لبنان وخارجه. إن اتهام عناصر سورية مقربة من السلطة في دمشق باغتيال الحريري ليس مفاجأة التقرير، فقبل تشييع جثمان الحريري المتفحم كانت أصابع غالبية اللبنانيين تتجه صوب سورية. المفاجأة كانت في ذكر أسماء مسئولين كبار في دمشق ربما ضد رغبة القاضي الألماني ميليس الذي كان يريد تجنب ذكر أسماء في تقريره ليعفي المنطقة من عملية تسخين الأجواء. وبسبب الاهتمام الإعلامي الكبير الذي حظي به تقرير ميليس، أصبح من الصعب جدا على سورية تقديم الدليل على براءتها، ولاسيما أن تعليقات وسائل الإعلام صدرت في صورة إدانة. يقول دبلوماسي غربي مهتم بالأوضاع في منطقة الشرق الأوسط: "من المستبعد تعرض الرئيس بشار الأسد لضغط من داخل بلده، صحيح أن الناس في سورية ليسوا سعداء في حياتهم لكن ليس في سورية معارضة منظمة، وليست هناك علامات تشير إلى احتمال حصول مظاهرات مناهضة للنظام كما حصل في لبنان عقب اغتيال الحريري أو قبل ذلك في أوكرانيا حين قامت الثورة البرتقالية. المخاطر وردت على لسان نائب وزير الخارجية السوري وليد المعلم الذي كشف عن مخاوفه من أن تستغل الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا تقرير ميليس للسعي إلى فرض عزلة دولية على بلاده، والمطالبة بفرض عقوبات اقتصادية ضدها. واشنطن التي زاد نفوذها بصورة معتبرة في المنطقة منذ أن غزت العراق ستستغل نفوذها على الأطراف العربية بدءا بالعراق ولبنان والسلطة الوطنية الفلسطينية لدفعها إلى تجميد علاقاتها مع دمشق. بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي فإنه سيتجاوب على الأبعد مع رغبة واشنطن. كل ما تبقى لسورية هو المراهنة على مساندة من الصين وروسيا لها لمناهضة قرار يدعو لفرض عقوبات ضدها حين يعرض للتصويت على مجلس الأمن". ويجمع المحللون أن نتائج تحقيقات ميليس في قضية اغتيال الحريري وفرت لواشنطن الأسباب الكافية للمضي بمخططها ضد سورية. فإدارة بوش لم تخف بعد غزو العراق وجود مخطط لديها بتوسيع حربها لتشمل سورية ثم إيران. وعلى رغم وضوح هذا الهدف فإن واشنطن لا تتحدث عن حرب ضد سورية، ويعتقد المحللون أن استراتيجيتها تقوم حاليا على صدور قرارات من مجلس الأمن ضد سورية. السفير الأميركي في الأمم المتحدة جون بولتون، المثير للجدل بسبب عادته إطلاق تهديدات بقوة المسدس، من سمع تصريحه لمحطة "سي إن إن"، يلاحظ أن واشنطن ليست متسرعة لشن حملة عسكرية ضد سورية. قال بولتون: "بعد القراءة الأولى لتقرير ميليس فإن النتائج تثير القلق" وهو ما فاجأ المراقبين بعبارته، لأنهم كانوا يتوقعون صدور عبارات عنيفة وخصوصا من بولتون، بدل تهديد سورية بعمل عسكري أو الدعوة إلى تغيير النظام. وقد أعلن بصورة مفاجئة أن حكومته ستناقش المسألة مع المجموعة الدولية. ولأول مرة بعد فشل واشنطن في الفوز بتأييد مجلس الأمن لمنحها الضوء الأخضر لغزو العراق، تختار إدارة بوش مجلس الأمن الذي يسخر منه صقور واشنطن، لتناقش فيه السياسة القادمة تجاه سورية. تصريحات بولتون تعكس التكتيك الآني للولايات المتحدة تجاه سورية. منذ سنوات ينتظر الاستراتيجيون في واشنطن صدور مثل هذه الاتهامات التي تضمنها تقرير ميليس ضد سورية. عوضا عن توجيه أوامر للطائرات المدمرة للتوجه إلى الأجواء السورية وضرب مؤسسات الدولة لغرض قلب نظام الحكم، قررت واشنطن على ما يبدو التمهل والعمل بمخطط أفضل. بدلا من النهج الذي استخدمته ضد نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين والذي أثار سخط أكثر من نصف العالم ضدها، لعدم شرعية الحروب الوقائية، تروج واشنطن بصوت ناعم لتغيير النظام في البلد الجار للعراق الذي تحتله منذ مايو/ أيار .2003 تشعر واشنطن بالرضا لأن تقرير ميليس وفر لها الذخيرة الفعالة للعمل بهذا التكتيك الجديد. ليس معنى ذلك عدم وجود رغبة أميركية بتوجيه ضربة عسكرية إلى سورية. أو حتى ضرب المنشآت النووية في إيران، المخططات موجودة في الدرج وتنفيذها مرهون بالوقت والظروف. في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول ذكرت مجلة "نيوزويك" الأميركية أن أعضاء ينتمون للإدارة الأميركية ناقشوا مسألة الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، من بين الطروحات استخدام القوة العسكرية. لكن في نهاية الاجتماع طلبت وزيرة الخارجية كوندليزا رايس من الصقور التأني مشيرة لرغبتها بداية في دراسة تقرير ميليس ثم مناقشة الخطوات القادمة. هذه المعلومة تعكس كيف تسعى واشنطن لتشديد الخناق على سورية والعمل أولا بسياسة التفاوض والتهديد من دون صرف النظر كليا عن الخيار العسكري. حرب أميركية ضد سورية مسألة مستبعدة. أبرز الأسباب انشغال القوات الأميركية في أفغانستان والعراق. حتى لو وجدت واشنطن أنه لديها العدد الكافي من الجنود والعتاد للقيام بحرب جديدة فإن هذا غير محتمل بسبب تراجع شعبية بوش لأن الشعب الأميركي بدأ يتحسس نتائج حرب العراق. اليوم تؤيد نسبة 39 في المئة من الأميركيين حرب العراق وهذا أسوأ معدل من وجهة نظر إدارة بوش. كما تواجه مكاتب التجنيد الأميركية صعوبة فائقة في الحصول على متطوعين جدد. وكانت واشنطن قد زادت حدة تهديداتها لسورية بعد اغتيال الحريري في فبراير/ شباط الماضي. ومن دون توافر أدلة على ضلوعها في عملية الاغتيال قامت واشنطن بسحب سفيرتها في دمشق، ثم صدرت تصريحات متتالية من قبل رايس تتوعد فيها دمشق. وعند انعقاد الاجتماع الأخير لمجلس الأمن رفضت واشنطن منح الرئيس السوري تأشيرة دخول لأراضيها للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة. وفي النهاية أحس الأسد بالإهانة وقرر التراجع عن الإصرار على الحضور. واستغلت واشنطن كل مناسبة لتكرار تهديداتها لدمشق. ولم يكن مجرد مصادفة حصول صحف أميركية على معلومات منقولة عن ملفات "سي آي إيه"، لكن لم يرد فيها اسم الحريري. ومعظم ما نشر كان بصورة اتهامات لسورية بغض النظر عن تسلل محاربين عبر حدودها للقتال ضد القوات الأميركية في العراق. كما اتهمت واشنطن سورية بدعم حماس والجهاد الإسلامي في غزة. ووضعت واشنطن خطة عمل تهدف إلى فرض عزلة دولية على سورية، وستتبع ذلك خطوات سريعة. ويشير دبلوماسيون أجانب لرغبة واشنطن في صدور قرارين ضد سورية، يدعوها الأول لوقف حملاتها "التي تثير عدم الاستقرار في المنطقة"، وتهديدها بفرض عقوبات اقتصادية لإرغامها على العودة لطاولة المفاوضات. والقرار الثاني يدعوها إلى تسليم الأشخاص المتهمين الذين وردت أسماؤهم في تقرير ميليس. وقد قطعت رايس شوطا مهما في جهودها للتحضير لصدور القرارين الدوليين. في أقل من أسبوع سافرت إلى انجلترا وفرنسا وروسيا. أهم موضوع تدارسته مع المسئولين البريطانيين والفرنسيين والروس، كسب البلدان الثلاث في صف واشنطن في مواجهة سورية. وفقا لمعلومات إعلامية حصلت رايس على تأييد أوروبي لكنها لم تفلح بالفوز بتأييد موسكو. لكنها تأمل أن يساعد تقرير ميليس في تراجع روسيا عن موقفها. ويعتقد أن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد بحث الموضوع نفسه مع القادة الصينيين خلال زيارته لبكين التي تمت في بحر الأسبوع الماضي. ما تسعى إليه واشنطن إقناع روسيا والصين بعدم استخدام الفيتو ضد قرارين يشددان الخناق على سورية. تنتظر واشنطن ذخيرة أخرى إذ يتوقع مجلس الأمن الدولي الحصول على تقرير جديد يتعلق بسورية. سيكشف التقرير الجديد ما إذا قامت سورية فعلا بسحب جميع جنودها وعناصر مخابراتها من أراضي لبنان. عند مناقشة هذا الموضوع ستستغل الولايات المتحدة الفرصة لتوجيه اتهامات جديدة لسورية، ما يخدم استراتيجيتها ضد الرئيس الأسد وفي الوقت نفسه إقناع المترددين في بكين وموسكو والرافضين في العالم العربي الإسلامي بالتراجع عن مناهضتهم للسياسة الأميركية المتشددة حيال دمشق

العدد 1150 - السبت 29 أكتوبر 2005م الموافق 26 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً