العدد 1153 - الثلثاء 01 نوفمبر 2005م الموافق 29 رمضان 1426هـ

التقرير... والمصير

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

أخيرا وبعد حبس أنفاس طويل وانشداد أعصاب متعب، استمع مجلس الأمن إلى تقرير ميليس. التقرير الذي يبدو أن أكثر من مصير صار تحت رحمته. ومن هذه الزاوية، يشكل الحدث نقطة مغادرة لحقبة، غير مأسوف عليها، سورية ولبنانية؛ والدخول في أخرى. الحقبة الأولى من المؤكد أنها في مرحلة الاحتضار، المحكوم ببلوغ خواتمه الحتمية. الثانية هي مرحلة انتقالية مفتوحة على كل الاحتمالات. وليس من المبالغة القول إنها مفخخة بامتياز وخطيرة. وربما مكلفة وبما يفوق طاقة سورية ولبنان على الاحتمال؛ نظرا إلى مدى الانكشاف الذي ستتعرض له هاتان الساحتان. السورية مرشحة لمزيد من الاستهداف، على قاعدة التقرير وما قد يتبعه من تحقيقات تزيد من كشف التورط السوري. والساحة اللبنانية مرشحة، هي الأخرى إلى التحول إلى مسرح تدور فوقه صراعات وتسديد فواتير دولية وإقليمية؛ مع كل ما يستتبع ذلك من تعميق الوصاية عليه والاسترهان له ومن استقطاب وفرز عميقين ناهيك بالتشنج؛ في الداخل. التقرير بحد ذاته لم يكن قنبلة. ولا حتى صدمة. بل لم تكن فيه مفاجأة. في إطاره العام، جاء وفق التوقعات. ربما احتوى على تفاصيل كانت غير معروفة وعلى أسماء لم تكن في الصورة. لكنها كانت جزئيات لا تخرج عن دائرة الجهة اللبنانية - السورية المشتركة التي تصوب إليها إصبع الاتهام العام، من البداية. بيد أنه على رغم خلوه من أي جديد فارق، أثار التقرير طوفانا من الردود وطغى كالحدث الهادر على الاهتمامات السياسية والإعلامية. احتكر الشاشة والمانشتات والنشرات. ومنذ الإفراج عنه كان ومازال حديث الساعة، في الأندية والعواصم والأمم المتحدة. وكما كان من المتوقع انقسمت الردود وتوزعت على خندقين: واحد يقول أصحابه إن التقرير "مسيس" ولم يأت بأية أدلة دامغة وبالتالي فهو منحاز ومتحامل على سورية. وآخر يرى أنصاره، أن التقرير جاء عند حسن الظن ووضع الإصبع على الجرح. الأول رمى ميليس بالتحيز وانعدام النزاهة والمهنية. الفريق الثاني أشاد بالمحقق وبقدراته واستقامته كلاهما تمسك بموقفه المسبق. وكلاهما لسان حاله يردد: ألم نقل لكم ذلك، من البداية؟ الواقع أن التقرير يقدم مادة للجدل إلى الطرفين. من جهة جاء بوقائع ومعلومات دامغة، تعزز الشبهات. ومن جهة ثانية فهو ترك أسئلة وحلقات مفقودة. أو بأحسن الأحوال رخوة الذي أراد التخفيف من آثار الشبهات، استحضر كل خبراته في التشكيك وكل قدراته الذرائعية، من خلال اللعب على الشوائب أو النواقص التقنية. والذي أراد تأكيد أهمية التقرير ورفعه إلى مستوى القرار الاتهامي، عمل على إبراز حلقاته المحبوكة وما جاء فيه من أدلة قوية. مع أنه، قضائيا، ليس أكثر من مضبطة ظنية أو محضر اشتباهي. بيد أنه بقطع النظر عن وجاهة هذا الموقف أو ذاك، فإن الجدل بشأن التقرير جاء خارج الموضوع. فقضية اغتيال الحريري قضية سياسية، محكمتها سياسية والحكم فيها سياسي. وقد صدر من البداية. كل ما فعله التقرير أن الحكم الذي صدر عن محكمة الرأي العام، من زمان، صار ممهورا بخاتم قضائي دولي. وكل ما يأتي لاحقا من تحقيقات ومحاكمات ومحاكم دولية أو لبنانية؛ ليس سوى تفاصيل إضافية، لن تقدم أو تؤخر. فالقضية رجعت إلى أصلها السياسي. والمشهد الآتي واضح: سورية في دائرة الاتهام ولبنان دخل غرفة إمتحان صعب. سورية باتت في موقع الدفاع. وخطوطها الدفاعية متقلصة ومتراجعة. والأكثر أذى أن عزلتها تشتد، دوليا وعربيا. ومجلس الأمن دخل على الخط. قد لا يقوى هذا الأخير، أو بالأحرى قد لا تقوى إدارة بوش، الآن، على تمرير قرار دولي بفرض عقوبات اقتصادية على دمشق. اعتبارات كثيرة تشفع لسورية من هذه الناحية. لكن تقدم التحقيق ومجيئه بالمزيد من الشبهات، قد يؤثر على المجلس ويحمله على تمرير قرارات ضاغطة على دمشق. ولو بقيت أقل من فرض عقوبات. وقد بدأت مثل هذه الموجة بمطالبتها بالمزيد من التعاون. وهنا التعاون تعبير مشفر لمطالبة النظام السوري بإدانة نفسه. وهو ما عكسه بصورة أوضح، مشروع القرار الأميركي - الفرنسي الذي جرى أمس طرحه في مجلس الأمن والذي يطلب من دمشق توقيف المشتبه فيهم، الذين وردت أسماؤهم في تقرير ميليس. تلبية ذلك تعني الانتحار بالنسبة إلى النظام؛ لأن المذكورة أسمائهم من أركان النظام، وبالتالي لن يقوى على ذلك. وهو الأن يبحث عن بدائل ومخارج. وهنا ورطته المتأزمة: الخيارات شحيحة والمطاردة متواصلة وبوتيرة متسارعة. ويبدو أن ما تردد عن "صفقة"، لم يكن أكثر من تضليل، أو تمنيات. فديناميكية التحقيق بلغت حدا لم يعد يسمح بالصفقات. ثم إن الصفقة المعروضة، أميركيا، ليست مقايضة بقدر ما هي شروط، لن يبقى من سورية الأسد شيء إذا تمت تلبيتها. هذا إذا كانت التلبية ممكنة أو مقبولة. فالنظام السوري تأخر. كان رهانه وتعويله على الوقت. لكن الوقت لم يخدمه. ثم إن التغيير المطلوب منه غير وارد؛ لأن النظام غير قابل للتغيير. وليس لأنه لا يريد. أو أنه اختار المعاندة. هو غير قادر. مفاصله تكلست وصار بنيانه غير قابل للترميم، لأن فرط أي جزء منه يهدد البناء كله بالهبوط. وخصمه، الثلاثي الدولي، بات على ما يبدو يدرك ذلك، فأخذ يرفع من درجة المطالب والشروط، لمفاقمة مأزق دمشق وتركها تنوء تحت حمله. فهي واقفة لوحدها في وجه حملة عاتية؛ لا شيء من التوازن أو التكافؤ فيها. أما المشهد اللبناني فإنه ليس بأسعد حال. قد يبدو أنه خرج من النفق. لكنه قد يدخل في أنفاق. فقدانه المناعة يرشحه ليكون ضحية هزات وأوضاع؛ لا قدرة له، في ضوء واقعه الهش، على الصمود بوجهها. فهو مقبل على استحقاقات كبيرة: خواتم التحقيق في قضية الحريري، ناهيك بمحاكماتها؛ قضية رئاسة لحود، ثم القرار 1559 بشقيه الفلسطيني وحزب الله. الإجماع مفقود في الساحة اللبنانية بشأن هذه القضايا - التحديات. بل إن الاستقطابات تتعمق بخصوصها. كل واحد يشد الحبل إلى جهته. الكل يزعم أنه يريد الحقيقة في قضية الرئيس الحريري. لكن في الحقيقة كل طرف يريد الحقيقة التي يقبلها ويرغب فيها. الكل يزعم أنه مع الحوار، بشأن هذه المسائل، لكن لا حوار في الساحة ولا هم يحزنون. ما يحصل ليس أكثر من اتصالات ومناورات ونقل البندقية من كتف إلى كتف؛ في حركة محورها تركيب المقالب. وكل جهة تريد الحوار المفصل على قياساتها. أي مطالبة الآخرين بالموافقة على مواقفها من دون استعداد للقيام بأي تنازل. أيضا الجميع أعلن قبوله بالتحقيق الدولي، في القضية التي فجرت الصراع. لكن كل فريق له تفسيره للقبول: فإما أن يأتي وفق مشيئته وإلا رجم المحقق ميليس بكل اللعنات أو غمز من قناته بأنه يقوم بترتيب صفقة، لناحية تطويع التحقيق في اتجاهها؛ بين واشنطن ودمشق. وكذلك الكل في لبنان يتشدق برفضه للطائفية باعتبارها أم المشكلات - وهي كذلك - لكنه على الأرض يتمترس في خندقها ويحارب بسيفها. أيضا وأيضا، كل طرف يتمسح، ليلا ونهارا، بالسيادة والاستقلال والحرية؛ وهو في الواقع يستقوي بطرف خارجي؛ شرقا أم غربا؛ عربا أم عجما. في الماضي كانت دمشق المحجة. اليوم صارت باريس وواشنطن. وكل من هؤلاء عنده توابله الخاصة لتجميل استعانته بالغير. الذين توجهوا غربا يزعمون أن العالم وضع لبنان - فجأة! - على جدول أولوياته واهتماماته. وبالتالي لابد من التجاوب والتعامل معه! أما لماذا هذا الاهتمام المفاجئ فلا جواب على ذلك. أما الذين سبق ووضعوا كل البيض في سلة النظام السوري، فبقوا على تعاطفهم، بزعم أن هذا الموقف تمليه عليهم "عروبتهم"! الأول يغمز من زاوية الثانية ويضعه - صراحة أو ضمنا - في خانة "الخونة". والثاني يأخذ على الأول ضعف لبنانيته و"عمالته" لما وراء الحدود. لبنان السياسي سلة خليط من النفاق المجبول بالعجز. جذر العلة يكمن في هزال روح المواطنة؛ وبالتالي ترنح وترهل الوطن، الذي تحول إلى مجموعة "وطنيات"، لها ملوكها وأمراؤها الذين لا يقوون على الاستمرار من دون مد اليد إلى الخارج. في سورية كما في لبنان، الأفق قاتم... والخلاص بعيد

العدد 1153 - الثلثاء 01 نوفمبر 2005م الموافق 29 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً