العدد 1153 - الثلثاء 01 نوفمبر 2005م الموافق 29 رمضان 1426هـ

ديتليف ميليس الحائر بين لغة الحقيقة وامتلاكها

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

صدر تقرير رئيس لجنة التحقيق الدولية في مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري القاضي الألماني ديتليف ميليس مثلما كان متوقعا: تجريم بالجملة للأشخاص الذين بشر بهم الإعلام اللبناني المناوئ لسورية بعيد اغتيال رفيق الحريري، وكأن التقرير تفكيك لطلاسم قرنة شهوان، أو إعادة تحوير لاتهاماتها لسورية وحلفائها في الفترة التي أعقبت 14 فبراير/ شباط الماضي. التقرير الذي بني على استجواب 500 شخص ودراسة 370 إفادة لشهود و293 ملاحظة لثلاثين محققا من سبع عشرة دولة و16711 صفحة من الوثائق و22 شخصا من المشتبه بهم و453 صورة لموقع الجريمة، استل وقائع مجردة وهلامية ليبني عليها تهما خطيرة، جعلت ميليس يواجه انتقادات قانونية واسعة من أطراف مختلفة. فقد وردت إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوني عنان 154 رؤية قانونية تمت الإشارة فيها على أن تقرير القاضي الألماني يحوي مغالطات فاضحة، وهي الانتقادات ذاتها التي واجهها ميليس عندما كلفه سابقا القضاء الألماني والقضاء الفرنسي لمتابعة قضايا تتعلق بالإرهاب. لم تستطع لجنة التحقيق الدولية أن تتخلص من أجواء التسييس المسكونة بها، ومن حجم التدويل الذي واكب حادث اغتيال رفيق الحريري، فحاولت جاهدة تطويع الحوادث والوقائع لتصوغ منها توليفة قانونية تتلائم ورغبات الدول الكبرى في حربها ضد سورية وضد أطراف مختلفة في المنطقة، فماذا يعني أن يشير التقرير إلى مكالمة من أحد المواطنين "عضو جماعة الأحباش" يتصل فيها بخط هاتفي تابع لمكتب رئيس الجمهورية إيميل لحود قبل دقائق من عملية تفجير موكب الحريري، ويهمل مكالمة أخرى للنائب بطرس حرب يتصل فيها برئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية المرابطة في لبنان آنذاك العميد رستم غزالة؟! ثم ماذا تعني السرديات المسهبة للأفراد وعلاقاتهم مع بعضهم بعضا والتي لا تفضي إلى نتيجة محددة يمكن البناء عليها. والأكثر من ذلك، كيفية تفسير "حشر" الكثيرين ممن لهم علاقة حسنة مع سورية في زاوية الاتهام والتجريم، وكأن الدولاب هو العلاقة مع سورية، وبالتالي فإن فحص ما ساقته اللجنة من أدلة وبراهين في تقريرها لا يمكن أن يحتمل النتائج بشكل مريح، وإذا ما قدمت هذه النتائج بأدلة إثباتها إلى محكمة دولية من الراجح ألا تطمئن لها حسبما يقوله أستاذ القانون الدولي عبدالله الأشعل. الأغرب هو أن التقرير سرد تحقيبا للوقائع التي سبقت وأعقبت الجريمة من غير إجراء عملية فصل لبعض الحوادث التي لا ترتبط بسابقتها سوى من الناحية الزمنية، خصوصا وأن هذه الوقائع تم جمعها من خلال مسبقات اتهام. ثم إن هذه الاتهامات يمكن تفنيدها بضمها إلى استنتاجات أخرى مصاحبة للتقرير، فمثلا أشار ميليس في تقريره إلى أن قائد قوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج "كان في مكتبه عندما أعلم بنبأ الانفجار، إذ ذهب إلى موقع الجريمة، وخلال توجهه إلى الموقع تحادث مع شهيد خوري من الأمن الداخلي الذي أبلغه بأنه كان هناك انفجار كبير، وطلب اللواء الحاج من خوري إرسال كل التعزيزات اللازمة إلى موقع التفجير، وكانت الوحدات تتضمن فرقا مخبرية بإمرة هشام أعور وخبراء متفجرات بإمرة عبدالبديع السوسي ووحدة التحقيق بإمرة العقيد فؤاد عثمان، وكانت مسئوليته الوحيدة أن يقدم الإمكانات اللازمة، بعد وصول قاضي التحقيق أصبحت كل قوات الأمن بإمرة القاضي، ولم يكن باستطاعة اللواء الحاج أن يتدخل في التحقيق" وهو ما يعني مخالفة ما ذهبت إليه بعض الفقرات من أن النظام الأمني آنذاك لعب دورا محوريا في تغيير ملامح الجريمة. وما يزيد الموضوع تعقيدا أنه وفقا لتعليمات قاضي التحقيق وبموافقة المدير العام للأمن الداخلي علي الحاج فان السيارات التابعة لموكب الحريري نقلت إلى ثكنة الحلو لتصويرها في المنطقة وتم تسجيل فيلم فيديو في حضور قائد منطقة بيروت الثانية وقائد شرطة السير ومسئول منطقة البرج وفرقة التحقيق الجنائي واستخدام الخطوط التي قدمت من الدفاع المدني وفقا للأصول المرعية، ووضعت في تقرير خاص، أما السيارات فوضعت في ثكنة الحلو. من جانب آخر يضاف إلى سلسلة علامات الاستفهام الكبرى، أن التقرير أفاد أيضا أن الشاحنة "ميتسوبيشي بيضاء" التي قيل انها استخدمت في عملية الاغتيال دخلت المنطقة قبل دقيقة و49 ثانية من مرور موكب الحريري، ثم ذكر أن الحريري كان من المفترض أن يمر في الطريق الرسمي عبر شارع الأحدب وشارع فوش، لكنه وعند تقاطع شارع فوش وشارع الميناء وبسبب الازدحام انعطف يسارا بشكل مفاجئ في طريق فرعي نحو الطريق البحري باتجاه عين المريسة وفندق السان جورج، وهنا يكمن السؤال: كيف أدرك منفذو الجريمة "أو الأمن السوري أو اللبناني كما يحب ميليس" وفي غضون دقيقة و49 ثانية أن الموكب سينعطف يسارا في ذلك الطريق؟! في الوقت الذي يشير فيه التقرير في أحد استنتاجاته إلى أنه كان من الصعب على أفراد من خارج الحلقة الضيقة والمحيطة بالحريري أن يتوقعوا الطريق الذي سيسلكها موكبه، وأن القرار في الاختيار يعود إلى رئيس الحرس الخاص للحريري الذي بدوره يطلع سيارة مطلع الموكب على التفاصيل، وهي السيارة التي يقودها ضباط الحماية اللبنانيين؟! ثم كيف لنا أن نفهم تغييب التقرير للموتى، كوزير الداخلية السوري المنتحر غازي كنعان، على رغم أنه سابقا ذكر أن كنعان يملك حسابا مصرفيا في لبنان يحتوي على مبلغ 20 مليون دولار، وهو الحساب الذي بنى عليه ميليس شكوكا واستنتاجات اتهام، بالإضافة إلى تغييب التقرير للذين ناكفوا الحريري منذ العام 1994 ولم يتحالفوا معه إلا بعد التمديد، أي قبل اغتياله بأربعة أشهر. ثم أيضا كيف لنا أن نفسر "أولية" التقرير باعتباره حلقة نيابة عامة للجريمة، وبين ردة الفعل "السياسية" من قبل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين دعتا مجلس الأمن إلى جلسة طارئة واتخاذ موقف صارم ضد سورية وكأن الحكم قد صدر. فإذا كان صاحب التقرير "ميليس" يقول إن تقريره أولي ويحتاج إلى متابعة وعمق، فكيف إذا بنى التحالف الأنغلوساكسوني موقفه القانوني إن لم يكن الأمر تصفية حسابات دولية وإقليمية وتسييس حتى شحمة الأذن. وإذا كانت سورية تتهم بأنها كانت تمسك بالأمن في لبنان لحظة مقتل الرئيس الحريري، فلنا أن نقابل النماذج والحجج، فـ "إسرائيل" أيضا كانت في لبنان لحظة وقوع الجريمة، فهي تحتل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهي مساحة تمتد إلى حوالي 200 كم، وبها ثمانية آلاف عائلة، أي ما يوازي حوالي 35 إلى 40 ألف مواطن لبناني، وبالتالي فإن نفوذها الاستخباراتي والتجسسي داخل الأراضي اللبنانية أمر مفروغ منه، وهذا أمر يدعونا إلى التعجب أكثر، خصوصا أن التقرير استهل شكره لـ "إسرائيل" على تعاونها مع اللجنة الدولية. إنه وفي ظل الأجواء المملوءة بالغبار والحجارة التي حجبت الرؤية، ولكي لا يبدو الأمر وكأنه عناد تحكم في العقل بغرور القوة، تجب الإشارة بضرس قاطع إلى أن على الأحزاب اللبنانية المعادية لسورية أن تعي طبيعة المعادلة الدولية القائمة ونوايا الدول الكبرى، وأن لا تنسيهم الحوادث المتلاحقة ما فعله هانز بليكس وسكوت ريتر المفتشان الدوليان السابقان عن أسلحة الدمار الشامل العراقية من تدليس للحقائق وافتراء، أدى لأن تتشرعن حرب واشنطن ولندن على العراق، وعندما سقطت بغداد وقتل الآلاف من المدنيين، خرج الاثنان أمام العالم ليقولا: "لقد كذبنا.. لم يكن العراق يملك أسلحة دمار شامل"! إن الأحزاب اللبنانية المعادية لسورية يجب أن لا تثق بدموع جورج بوش ولا بحزن بلير وشيراك على مقتل الحريري، لأنهم لا يعرفون أي معنى للحزن أو العواطف، فالأميركان لم يتأسفوا لحظة على مقتل كينيدي ولا الفرنسيون على المهدي بن بركة، ولا البريطانيون على الملك غازي في العراق... وفي ذلك فسحة واسعة للتأمل والتفكير

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1153 - الثلثاء 01 نوفمبر 2005م الموافق 29 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً