العدد 2430 - الجمعة 01 مايو 2009م الموافق 06 جمادى الأولى 1430هـ

أوباما... وسياسة البسط والقبض

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مئة يوم ويوم قضاها الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض يراجع الملفات محاولا تصحيح أخطاء عهد الرئيس السابق وتحسين سمعة الولايات المتحدة وتصويب سياسات أدت إلى تقويض «النموذج الأميركي».

المراجعة لا تزال في بدايتها وهي لن تكون في نهاية المطاف جذرية حتى لو أعطى الدستور صلاحيات مطلقة للرئيس. فالرئيس محكوم بشبكة من اللوبيات وأجهزة الضغط التي تهمش قدراته وتضعها في سياق آليات لا يستطيع تجاوزها والقفز عنها. شبكة القرار في الولايات المتحدة أخطبوطية وهي تتشكل من مجموعات تتحكم بالطرقات التي تصعد وتهبط ولكنها تصب في إطار الدفاع عن المصالح العليا للدولة.

سياسة البسط (الانفلاش) والقبض (الانكماش) شكلت جوهر المراجعة النقدية التي اعتمدها اوباما في فترة المئة اليوم وهي تعتبر عينة للفحص والاختبار. فاليوم الأخير من نهاية تلك الفترة تتوج بمصادقة الكونغرس على خطة الرئيس لموازنة العام 2010.

الموازنة بلغت 3.56 تريليونات دولار وهي تعتبر ضخمة في أرقامها بعد تلك الأزمة النقدية التي أطاحت بالمصارف والشركات وأسواق العقارات والبورصة. ولكن الرئيس الأميركي اضطر إليها لرفع درجات التأهب في مواجهة موجات من الاضطراب أخذت تزعزع استقرار مؤسسات الصناعات المدنية بسبب ضعف الاستثمارات المالية في قطاعاتها في عهد جورج بوش. تيار المحافظين الجدد ركز جهوده على الانفاق الحربي وتمويل الأجهزة العسكرية ما أعطى مؤسسات التصنيع الحربي وفروعها موقع القيادة في قاطرة الاقتصاد الأميركي. وساهمت سياسة التوظيف الحربي في إعادة هيكلة التراتبية الهرمية في قواعد الإنتاج ما أدى إلى تكوين أجهزة (لوبيات) تمتلك إمكانات تعطل محاولات الخروج من المأزق الذي وصلت إليه القطاعات المدنية والتحويلية الأخرى.

أهم عنوان يمكن اعتماده للحكم على مدى نجاح أوباما في اختبار مدة المئة اليوم الأولى يبدأ من فحص الاقتصاد لكونه يشكل عينة تعطي مؤشرات حيوية على مستقبل الدور الأميركي في السنوات الأربع المقبلة. وأساس الاختبار ينطلق من الموازنة الهائلة في أرقامها التي كسرت التوقعات لكونها اعتمدت على قواعد ترفع من نسبة الديون والعجز في تغطية النفقات. فالموازنة تأسست على هاجس تجاوز أزمة المال والخوف من السقوط في منطقة الركود. وبسبب تلك المخاوف والهواجس لجأت الموازنة إلى المراهنة على توسيع نطاق الإنفاق الاجتماعي في مجالي الرعاية الصحية وقطاع التعليم مقابل خفض الضرائب على الطبقة المتوسطة لتشجيعها على الاستهلاك والتسوق.

هذا التفاوت بين رفع أرقام الموازنة وخفض قيمة الدخل سيؤدي بالضرورة إلى نمو العجز في ميزان المدفوعات الذي وصل في عهد بوش إلى 12 في المئة من الناتج الإجمالي القومي. والعجز المتنامي المترافق مع انكماش الاقتصاد بنسبة أكثر من 6 في المئة سيدفع دورة الإنتاج إلى السقوط في دائرة التضخم بسبب الإفراط في ضخ الأموال في السوق بذريعة إنعاش الاستهلاك وإرساء قواعد نفسية للنمو. هدف أوباما من الموازنة الهائلة تركز على بناء خطوات قادرة على تحريك اقتصاد السوق ومنعه من مواصلة الانزلاق في دائرة الركود ودفعه نحو النمو الآلي وصولا إلى الاستقرار وربما الرخاء. إلا أن الغاية التي حددها أوباما في مشروع موازنته افتقرت إلى خطة عمل تنقذ الاقتصاد من هيمنة قطاعات عسكرية تحتاج إلى حروب لتغذيتها أو إعادة هيكلة للأولويات في درجات هرم أبنية الإنتاج وحلقاته القوية والضعيفة.


الشبكة الأخطبوطية

نموذج الموازنة يعطي فكرة عن تلك العينة التي يمكن اعتمادها للحكم على مدى احتمال نجاح أوباما في عهده. فالموازنة تأسست على مراجعة غير جذرية فرضتها ظروف الأزمة النقدية وما تطلبته من إجراءات للحماية وإنقاذ شركات ومصارف وعقارات من الانهيار. وسياسة الضرورة رسمت هوامش ضيقة لإعادة قراءة الملف الاقتصادي من كل الجوانب وتحديدا من طرفي الإنتاج والإنفاق ما أعطى فرصة لبقايا الحزب الجمهوري في مجلسي الشيوخ والنواب للهجوم المضاد على موازنة تعتمد على قاعدتين: تطويل جدول الديون وتوسيع دائرة العجز.

هناك ما يشبه الاعتراف بالفشل في تصحيح آليات الاقتصاد الأميركي في المرحلة المقبلة بسبب حاجة الإدارة إلى ردم ثغرة واضطرارها إلى حفر أنفاق باتجاه كسب الطبقة المتوسطة والمحافظة على تأييدها للحزب الديمقراطي. والتسرع في إعلان الموافقة على الموازنة جاء فعلا ليلبي حاجة سياسية تريد التمايز عن توجهات الإدارة السابقة ولكنها غير قادرة على توليد آليات مغايرة في التعامل المالي مع قطاعات الإنتاج التي تضررت في عهد بوش ونزوعه الدائم نحو الحروب المفتعلة ومتطلباتها للصرف والإنفاق.

العينة الاقتصادية التي تمثلت في الموازنة يمكن اعتمادها لاختبار إدارة أوباما في مختلف الملفات الأخرى. فالعينة تشير إلى وجود اتجاه متسرع في المراجعة يقوم على معادلة الانفلاش (البسط) والانكماش (القبض). وتشكل الموازنة ذاك المعيار الذي يؤشر إلى وجود توجهات سياسية متشابهة في العلاقات الدولية. فكل الملفات شهدت مراجعات نقدية وتصويبية وتصحيحية -باستثناء الموضوع الأفغاني وامتداده الباكستاني- ولكنها في مجموعها لم تخرج عن معادلة البسط والقبض التي تتحكم في قوانينها آليات خفية موروثة عن العهد البوشي.

الشبكة الأخطبوطية لا تزال قادرة على منع تعديل القرارات والإجراءات والخطوات بسبب تحكمها بالحلقات والأجهزة ومجموعات الضغط. في الملف الفلسطيني هناك خطوة تصحيحية إلى الأمام مقابل خطوة تراجعية تتماثل مع السياسة التقليدية. في الملف العراقي هناك أكثر من خطوة إلى الأمام (الانسحاب) مقابل خطوة مترددة تتخوف من انكسار التوازن في معادلة أخذت تنعكس سلبا على المصالح الاستراتيجية الأميركية في دائرة إقليمية خطيرة وحساسة ولا يمكن الاستغناء عنها بسهولة. حتى مشروع تحسين العلاقات مع روسيا وأوروبا والصين يمر في درجات صعود وهبوط من دون أن يتوصل إلى نوع من الاستقرار الذي يضع حدا للتنافر السلبي وانعدام الثقة.

سياسة أوباما الدولية تشبه كثيرا مشروع موازنته التي اعتمدت معادلة متعاكسة بين رفع درجة الإنفاق من جانب وزيادة نسبة العجز في الدخل. وهذا التفاوت بين الطموح في توسيع رقعة الرعاية والنمو والتنمية والعجز البنيوي في تلبية تلك النزعة الاجتماعية والإنسانية يشير إلى معضلة داخلية يصعب كسرها أو تعديل آلياتها التي تحفر أنفاقا سرية قد تزعزع في المستقبل توازن قطاعات الإنتاج وتراتبها الهرمي في البناء الاقتصادي الأميركي.

منهج البسط والقبض الذي اعتمده أوباما في الملف الداخلي (مشروع الموازنة) يمكن اتخاذه عينة للحكم على مدى نجاحه في تعديل آليات السياسة في العلاقات الدولية. فالمنهج ارتبط بمعادلة زئبقية تتفاوت في توازنها بين إرادة تطمح للتصحيح والتصويب والمراجعة والانفتاح والبسط وبين قوة غير قادرة على تجاوز مرتكزات استراتيجية تأسست على ثوابت تقليدية يصعب كسرها من دون مواجهة تلك الشبكة الأخطبوطية التي تقبض على ناصية القرار وتحد من إمكانات الخروج من سلسلة الحلقات المغلقة.

مئة يوم ويوم قضاها أوباما في البيت الأبيض لمراجعة الملفات وهو أوفى ببعض الوعود ونجح في تحسين السمعة الأميركية في أجزاء من الصورة... ولكنه حتى الآن لم يأخذ خطوته الكبيرة التي تتطلب فعاليات تعزز آلياتها العملية طموح الإرادة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2430 - الجمعة 01 مايو 2009م الموافق 06 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً