العدد 1201 - الإثنين 19 ديسمبر 2005م الموافق 18 ذي القعدة 1426هـ

آلة الموت المتوحشة

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ثمة إحساس غريب دفعني كما غيري لكي أقبع أمام التلفزيون بعد منتصف ليلة البارحة (الأحد 18/12/،2005) لمشاهدة مقابلة غسان تويني مع جزيل خوري على شاشة العربية. إحساس يتفاوت ما بين استشعار حجم فجيعة (لبنان) مع آلة الموت المتوحشة، وفضول لاستكشاف قدرة الإنسان وطاقته العجيبة على مواجهة لحظة الفقد المريعة. الموت، وأي موت؟ إنه ذلك الذي يتم بآلة تتفنن بتفخيخ السيارات وتفجيرها بأصحابها، بدم بارد كالصقيع، فهذا الموت لا ينهي ويجرف في مجراه حياة فرد ما فقط، بقدر ما يبعث الرعب والهلع ويعرض فيها وطناً بأكمله للتشرد والضياع، ويدفعه قسراً إلى أتون محرقة حرب أهلية تأتي على الأخضر واليابس. إنها اللحظة التي يتم فيها إبادة الإنسان الذي حريٌ به أن يعيش ويستكمل عمليات البناء وتعمير الأرض من أجل حياة إنسانية كريمة ومستقبل مشرق. مشاهدة الاثنين على شاشة التلفزيون (غسان تويني وجزيل خوري) يبعث على شعور غريب، فهو ­ أي غسان ­ ليس كأي أب عادي فقد الأبن ­ جبران ­، وهي ­ جزيل خوري، زوجة الصحافي سمير قصير ­ ليست كأية أرملة فقدت الزوج، لا شعور بالحسرة والأسى ولا الشفقة تجاههما، أبداً، إنما شعور إنساني غريب صعب أن يوصف، بيد أنه من المؤكد، يتجاوز السياسة والسياسيين، فمهما حاول البعض تمرير فعل ذلك الموت وتبريره تحت وطأة الاختلاف في الرأي والمصالح، وتحدث عنه في سياق تجاذبات السياسة وساحة المعركة والصراع، إلاّ انه سيبقى البقعة المظلمة في عمق الإنسان وتاريخ البشرية، تلك البقعة التي لابد أن يقابلها ضوء خافت، يبعث الأمل ويبدّد الحزن والنحيب، ويرفض القسوة والوحشية. فهذا الموت غير مقبول ولا عادل في أية ثقافة من الثقافات الإنسانية. كم من المرات التي يتمنى المرء منا فيها الموت فقط للتخلص من عذابات لحظات تعيسة ومؤلمة تمر به وتتكرّر في حياته باستمرار، كم من البساطة والسذاجة التفكير بذلك، كم من المرات التي يلام فيها آخرون على اجترارهم حزنهم وألمهم على ما فقدوه، كم وكم، بيد ان حال الفقد (الشهادة) التي سجلت في رصيد المبدأ والحرية والأرض والوطن، أو تلك التي تأتي في سياق القبول بالحقيقة المطلقة لفلسفة الحياة والموت، لا يمكن وبأي حال من الأحوال أن يستشعر هولها إلاّ من أصيب بشظايا فعلها في صميم القلب والعقل. لذا، فالموت المتوحش والمجاني والبارد ليس بموضوع يسهل التداول بشأنه أو التنظير له. حزن الكهل المفعم بخبرة الحياة وقسوتها، شرورها وانقلاباتها غير المبررة، تدفق ما بين جمله وعباراته التي سرد عبرها ذكريات تاريخه النضالي ومواقفه، بيد ان أبلغها تلك التي لم يستطع التخفي عنها فبسطها باختصار، حينما عبّر قائلاً: «... ما الذي بيني وبين محمد حسن نصرالله لأتحدث معه على الهاتف؟ ليس بيني وبينه سوى اللحظة الإنسانية المؤلمة التي فقدنا نحن الاثنين فيها ابنينا... لقد قال لي، لولا ظروف الأمن، لكنت أقف معك في الكنيسة أتقبّل العزاء»، لو خضنا في غمار رحلتنا مع النفس البشرية، وحاولنا تشريحها، فاننا حتماً سنجد في جوفها بقعة إنسانية مشرقة، شفافة ورهيفة مهما اكتست بالسواد، وابيض شعرها من الحزن، والغضب والانتقام، فهي لا محالة ستتحوّل في زمن ما ومكان ما، من لحظة شرر وغضب إلى روح إنسانية مفعمة بالمحبة، محلقة بالسلام والتصالح مع الذات والآخر. فالخير في داخلنا أقوى، ويجب أن يبقى أقوى من ذي قبل، ولابد أن ينتصر على الشر والتوحش والتدمير. لو أدركتنا جمعياً لحظة السلام والتصالح هذه، وانتشر شعاعها في دواخلنا، لما مات الإنسان فينا، ولما وجهنا سهام الموت والدمار والأحقاد إلى صدور بعضنا البعض.

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1201 - الإثنين 19 ديسمبر 2005م الموافق 18 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً