العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ

وخرج أبوعمّار من جحيم دانتي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

خلال سنوات الصراع بين العرب والكيان الصهيوني، كانت المآسي تشتد وقعاً وإيلاماً، فبالإضافة إلى ما حاكه الاستعمار الإنجليزي على تلك الأرض كان الداخل الفلسطيني يشهد عمليات تقليص منهجي للأراضي لصالح اليهود، فبدأ الولاة الأتراك في أواخر عهد الخلافة العُثمانية وعن طريق الرشوة إيهاب اليهود 650 ألف دونم، ثم مُنِحت الوكالة اليهودية 300 ألف دونم كمنحة من المندوب السامي البريطاني، أعقبها قيام حكومة الانتداب البريطاني منح الوكالة ذاتها مساحة 200 ألف دونم بسعر تُرابي زهيد. ثم قامت عوائل (نترفع عن ذكر اسمها) ببيع ما مجموعه 760 ألف دونم للتجار اليهود، ولم يكن لديهم أدنى شفقة أو رحمة لهذه الأرض ولحجم التآمر الدولي أمام صبّ أحضانهم بالمال والذهب والنساء. مضى الآن أكثر من سبعة وخمسين عاماً على قيام دُوَيلَة الكَيان الصهويني الغاصب على هذه الأرض العربية الإسلامية، من دون أن تلوح بوادر لحل هذه الأزمة. الأنظمة العربية توارثت القضية حتى أفرغتها من محتويات كان الأمل عليها كبيراً، ثم ان هذه الأنظمة احتكرت لنفسها حق معالجة الأزمة، فما استطاعت إلاّ أن تزيدها تعاسة وتراجعاً، فالخوف على كُرسي الحُكم جعل من تلك الأنظمة ترضى بأي عرض يُقدّم إليها، مع قناعتها بأن تلك العروض ستتقلص شبراً شبراً، نتيجة القضم المُمنهج للتنازلات والخيانات، حتى أصبح الاستجداء العربي للدولة العبرية مُقَزّزاً ومُرهقاً للعزائم، فانقلبت الأمور والمفاهيم، حتى غدا الحق باطلاً والباطل حقاً، وأصبح شارون الذي كان يقول بإنه ما فتئ يُعلّم جيشه كيف أن العربيات عبدات للأمة اليهودية ويفتخر بأنه قتل 750 فلسطينياً في غزة في وجبة واحدة، وأنه لو أمسك بفلسطيني لأذاقه أولاً صنوف العذاب ثم يقتله حرقاً، أصبح هذا الجبان رجل سلام، وأنه الوحيد القادر على تحقيقه، لقد انزلق العرب نحو التسوية من دون أن يكون بينهم إعلان شرف، فذهب الجميع فرادى خلسة نحو عدوهم يُصالحونه. نعم، ذهبوا خلسة، لأنهم لا يملكون شرعية فيما يصنعون، ثم انهم صنعوا لأنفسهم تفويضاً وهمياً كالسامري. وكان الفتحاوي الأول المُكَنّى بأبي عمار قد قرّر أن يدخل في لعبة كبرى حاكها الشرق والغرب، واكتشف اللاعبون كلهم بعدها أنهم مغلوبون. كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات يُدرك بأنه يحتاج إلى أرض يُقاتل من عليها بعد أن طُرِدَ هو والمجاهدون من الأردن ولبنان ومصر. وعندما قرر الدخول في لعبة أوسلو كان يُدرك أيضاً أن ثغرة في طوق الحصار ستقلب ميزان القوى في المنطقة، فأمِنَ له الصهاينة، ونزلت بعدها قوات العاصفة ومقاتلو حركة فتح إلى أرض فلسطين، بأربعين ألف قطعة سلاح، وكان ذلك إنجازاً كبيراً بجانب معركة الكرامة. وبعد أن اكتشف الصهاينة أنهم يسيرون في ركب هلامي، لا يدلّ على شيء، تنبهوا إلى أن أفعى صناجة لم تتروض بعد، وأنها مازالت تهبهم حمّتها الأساسية، بدأوا في الضرب بلا هوادة وبالعقلية ذاتها التي كانت تمارسها العصابات الصهيونية في عقد الأربعينات، وبدأت سياسات القتل والحصار الجماعي للفلسطينيين، ومُورست سياسات الإفقار القاسية، فبلغ عدد الحواجز الإسرائيلية في الضفة الغربية 706 حواجز من دون احتساب الحواجز الطيارة التي تنصب للمواطنين فجأة ومن دون سابق إنذار، فكانت معدلات البطالة قبل الحصار ترتفع من 10 في المئة إلى 27 في المئة أي نحو 208 آلاف عاطل عن العمل. وكان الرئيس عرفات يراقب المشهد على بعد أمتار، وكان يُدرك حجم الهم الذي يُخلفه قتيل، لكنه لم يهِن أو يضعف، ولم يُقرر الخروج حيث العروض الفارهة التي قُدمت له في أوروبا وجنوب شرق آسيا، ورضى بأن ينام على الأرض في مقر المقاطعة، ولا يأكل إلاّ الجبن والخبز وقليلاً من الزيتون، وكان القريبون منه يقولون إن أسابيع وشهوراً تمرّ من دون أن يتصل به أي زعيم عربي ممن يفترشون وثير الحرير، ليسأل عنه أو يواسيه، ومع ذلك لم يوجه يوماً لأحد منهم عتاباً. لقد كان عرفات يُدرك بأن هناك أناساً سيُقبرون بلا صلبان، لذلك فإنه أبى أن يكون منهم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً