العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ

حقائق عن رحلة العناء والبحث عن التقدير

لماذا كل هذا التحامل على الأطباء؟

محمد سعيد السماك comments [at] alwasatnews.com

تزايد في الآونة الأخيرة تحامل بعض كتاب الصحف المحلية على الأطباء ولأسباب (أو ربما أهداف) لا يعلمها إلا الله. لكنهم تحاملوا على الأطباء بالذات عندما تزايدت مطالبهم وسعوا لتحسين أوضاعهم الوظيفية والمادية ضمن إطار التوجه الرسمي لتحسين الدخل المعيشي للمواطنين عموماً. وليس لهذا التحامل والتهجم مبرر غير الجهل أو التجاهل لخصوصية مهنة الطبيب وما تتصف به من جهد وإجهاد، وضَع الطبيب نفسه فيه إلى الأبد. ولرفع العذر أو لزيادة المعرفة بمهنة الطبيب نتتبع رحلة الطبيب العلمية منذ دخوله كلية الطب حتى يحصل على ما يؤهله للقيام بعمله. ولا اعتزم من مقالي هذا استدرار العطف من الناس، فقدسية المهنة أعلى من ذلك بكثير، ورجاؤنا هو الثواب الأعظم من الخالق القدير، ولكنني أحاول الرد بأسلوب علمي قدر الإمكان على بعض الانتقادات خصوصاً تلك المتعلقة بهجرة الأطباء للبحث عن مردود مادي أفضل. يتصور بعض الناس أنه بمجرد أن يتخرج الطبيب في كلية الطب تفتح له «مغارة علي بابا» ويتسلم أموالاً طائلة، كراتب شهري يأخذه في حقيبة «سامسونايت» كما قال أحد المرضى متهجماً على الطبيب لأنه طال انتظاره قبل معاينته، ولكنهم لا يعلمون أن الطبيب يتسلم راتبه كأي مواطن عادي على جدول الوظائف التخصصية ومن دون أية امتيازات، حاله حال أي مواطن. إلاّ أن هذا الوضع غير واقعي وغير منطقي نتيجة لخصوصية مهنة الطب ورحلة الحصول على المؤهل والتي أحاول هنا أن اسلط الضوء عليها عل وعسى أن نحصل كأطباء على التقدير المعنوي المناسب من المجتمع قبل التقدير المادي.

رحلة العذاب الطويلة

إن الطبيب، بعكس اقرانه في التخصصات الأخرى، لا يستطيع عند التخرج بعد سنوات دراسة تمتد من 5 ­ 7 سنوات أن يمارس الطب مباشرة ومن دون إشراف، لأنه في الواقع قد تأهل لفهم الطب وأساسياته، وأصبح مؤهلاً للقراءة في الطب وحسب. فيبدأ مشواره بسنة «الامتياز» تحت إشراف دقيق ممن يعلوه من الأطباء، وفي نهاية العام يخضع لامتحان آخر يضاهي امتحان التخرج من كلية الطب. ولا يعتبر الطبيب في هذه المرحلة موظفاً وإنما طبيباً تحت التدريب، ويتسلم مكافأة مقابل خدماته وليس راتباً، كما ان ليس له أية حقوق وظيفية كالتقاعد أو إصابات العمل، على رغم مما توكل إليه من مسئوليات وظيفية مماثلة لأي موظف، خصوصاً إذا تذكرنا من الأساس أن هذة السنة ليست اختيارية، بعد اجتياز سنة الامتياز بنجاح ينتقل الطبيب لوظيفة طبيب مقيم في قسم أو تخصص معين من تخصصات الطب المختلفة. هذه المرحلة في البحرين قد تكون أطول مرحلة من مراحل التدريب، فعلى رغم أن الطبيب يدخل برنامجاً تدريبياً من المفترض أنه مقنّن ومحدّد بسنوات معينة تمتد إلى ما يقارب 4 ­ 5 سنوات بحسب التخصص، فإن بعض الأطباء في البحرين ينهون المرحلة في ما لا يقل عن 6 ­ 7 سنوات في أكثر الأحيان، ليس لضعف قدرات علمية أو مهارات عملية بقدر كونها واقعاً تدريبياً ووظيفياً لسنا بصدد مناقشته هنا. عموماً في البحرين، يتدرج الطبيب في هذه المرحلة من طبيب مقيم مبتدئ (تَِّىُْ زمَّىلمَُّ)، إلى طبيب مقيم أول (سمَىُْ زمَّىلمَُّ) وأخيراً ما يسمى بطبيب مقيم «رئيس أطباء» مقيمين (وىمن زمَّىلمَُّ)، وذلك بحسب اجتيازه لامتحانات التخصص بمراحله المختلفة. أثناء هذة المرحلة يبقى الطبيب تحت مسمى طبيب متدرب، وعملياً لابد أن يمارس الطب تحت إشراف الطبيب الاستشاري المختص، على رغم أنه ­ على الأقل في نهاية المرحلة ­ قد اجتاز جميع الامتحانات المؤهلة للعمل من دون إشراف (يستثنى من ذلك أطباء العائلة الذين يمارسون المهنة من دون إشراف مباشر بمجرد إنهاء البرنامج التدريبي). وأثناء هذه المرحلة يكون الطبيب موظفاً حكومياً وعلى سلم الدرجات التخصصية التي يشاركه فيها كل الموظفين الحرفيين في الدولة كالمهندسين وغيرهم ممن يحملون شهادات البكالوريوس أو أعلى في المهن الأخرى. مما تقدم يتضح أن الطبيب لا يقوم عملياً بممارسة مهنته من دون إشراف إلاّ بعد أن يحصل على درجة استشاري، التي لا يمكن الحصول عليها ­ بحسب الإجراءات المتبعة في البحرين ­ إلاّ بعد السفر للتدريب في الخارج في أحد التخصصات الدقيقة. وهذا يحصل على رغم أن الطبيب قد أنهى المراحل المذكورة أعلاه واجتاز الامتحانات المطلوبة للتأهل لدرجة استشاري بتخصص عام، كما تنص عليه أنظمة المجلس العربي للتخصصات الطبية، على خلاف الدول الأخرى بما فيها دول مجلس التعاون التي يمكن أن يعمل فيها الطبيب كاستشاري بتخصص عام بمجرد اجتيازه امتحانات المجلس العربي للتخصصات الطبية أو ما يعادلها.

الطبيب و«تجديد التأهيل»

على أي حال، فإن مدة التدريب في الخارج تمتد من 3 إلى 5 سنوات. فإذا قمنا بجمع السنوات أعلاه يصل المجموع في أقلها 13 عاماً من التحصيل العلمي المستمر منذ دخول كلية الطب حتى يصبح مؤهلاً للعمل من دون إشراف. إلاّ أن واقع الحال يقول إن الطبيب في البحرين لا يرتقي لدرجة استشاري في أقل من 10 سنوات منذ التخرج على أقل تقدير، ولكم أن تتصوروا إحساس الطبيب الدائم بأنه غير مكتمل التأهيل، وأنه مازال متدرباً طوال هذه المدة. نعم، إن الطبيب يرتقي في السلم الوظيفي ولكن بعكس المهن الأخرى وخصوصاً الإدارية منها، التي تعتمد على الخبرة العملية، فإن ترقي الطبيب مرتبط بتحصيل علمي متواصل وباجتياز امتحانات تتدرج تصاعديا في التعقيد وتحتاج وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً للتحضير لها خارج أوقات الدوام الرسمية، واجتيازها في مواعيد محددة ليس له أية سيطرة عليها. ولا يتوقف هذا الجهد بالحصول على المؤهل وإنما يجب أن يحافظ عليه الطبيب بالتعليم المستمر، بل يتطلب الأمر تقديمه لامتحانات دورية لإثبات أهليته العلمية للاحتفاظ بالشهادة التي يحملها (ما يسمى بإعادة/ تجديد تأهيل) ما يجعله تحت ضغط متواصل ليحافظ على مستواه العلمي وترخيصه المهني.

مخاطر الإصابة والتعرض للإهانات

هذا من الجانب الأكاديمي، أما من ناحية طبيعة المهنة نفسها فإن الطبيب يتحمل مسئولية كبيرة في اتخاذ قرارات مصيرية، وأحياناً في وقت قصير بعد المعاينة والتعرف على طبيعة الحالة المرضية. وقد يحدّد هذا القرار إنقاذ حياة إنسان أو إنهاءها. وقد يتوجب على الطبيب اتخاذ تلك القرارات في أي ساعة من الليل أو النهار، وفي أي حال من راحة أو إجهاد، إذ يمكن أن يكون الطبيب مناوباً ولم يحصل على أية فرصة للراحة نتيجة العمل المتواصل لمدد تصل أحياناً إلى 36 ساعة، يقوم أثناءها باتخاذ عدة قرارات مصيرية والتعامل مع عدد كبير من الناس من موظفين ومرضى وذويهم، وما يصاحبه من إجهاد ذهني وضغط نفسي... إضافة للإجهاد البدني. يضاف إلى ذلك أن الطبيب ومهما اتخذ من احترازات، فإنه في تعرض دائم وبطريقة مباشرة لمخاطر الأمراض المعدية التي يمكن أن يصاب بها نتيجة رعايته للمريض المصاب، والتعرض المستمر لاحتمال الاعتداء البدني والإهانة النفسية نتيجة إما معالجة مرضى يعانون من أمراض عضوية أو نفسية تؤثر في سلوكياتهم، أو حتى مواجهة ذوي المرضى في الأوقات العصيبة وحالات الوفاة، وما يصاحبها من فقدان للتوازن العصبي لديهم في وقت ليس للطبيب فيه خيار إلاّ أن يؤدي واجبه.

ما الفرق بين المهندس والطبيب؟

في جانب آخر، وجهت انتقادات للأطباء بسبب السعي للحصول على وظائف في المهجر للحصول على رواتب أفضل. وافترض الكاتب أن الأطباء «ملائكة رحمة» لا يجوز لهم المطالبة بشيء كهذا، أو الهجرة للبحث عن أوضاع وظيفية ذات مردود علمي، ومعنوي ومادي أفضل. بينما لم يوجه أي انتقاد مماثل مع نشر الصحف أخباراً بشأن المهندسين الذين يتسربون من إحدى الجهات الحكومية. بل وتمادى الكاتب بتعنيف الأطباء واعتبرهم يلوون ذراع المسئولين بهجرتهم إن لم تتحسن رواتبهم، إن هذا الوصف، والتهجم والاتهام خطير وغير إنساني، لأنه يعرّي الأطباء من كل ما أنجزوه طوال سنين مضت على رغم الصعوبات الوظيفية والعلمية والمادية. والأخطر من ذلك أن تنزع من الطبيب بشريته واحتياجاتها الطبيعية. الطبيب والطبيبة بشر لهم أزواج وزوجات وأطفال يحتاجون للرعاية، وللمسكن الكريم. فكم من طبيب أو طبيبة يقوم برعاية مريض، وقد يكون المريض طفلاً بينما طفل الطبيب نفسه مريض بالمنزل ليس له من يرعاه؟ أما بقاء الطبيب المناوب في المستشفى فيعزله عن أهله وعن العالم لمدة يومين في الأسبوع على الأقل، في الوقت الذي لأهله الحق بوجوده معهم كأي إنسان آخر في الأيام العادية، لا سيما أيام الأعياد والمناسبات، ألا يستحق ذلك شيئاً من التقدير المعنوي إلى جانب التعويض المادي؟ ولو تغاضينا عن ذلك، فإن مهنة الطبيب ترتبط بجانب أخلاقي كبير، فقد أشارت عدة دراسات إلى أن هجرة الأطباء من أوطانهم ­ بما فيها دول متقدمة في الطب ­ ليس للجانب المادي فقط، وإنما بحثاً عن تعليم طبي أفضل أو للمحافظة على ما تعلموه والارتقاء به في ظروف علمية وعملية أفضل مما هو متوافر في بلدهم. وعلى الجانب الأخلاقي توفر لهم الهجرة لمؤسسات ودول أخرى إمكان ممارسة طبية تتناسب مع ما هو متفق عليه علمياً، مما لا يستطيعون تقديمه في بلدهم لعدم توافر الإمكانات العلمية والتكنولوجية المطلوبة. وهذا فعلاً سبب رئيسي دفع الأطباء البحرينيين المهاجرين حالياً للإقدام على هذا القرار الصعب، فتوفَر لهم التعليم الطبي المتطور، والتقدير، والتقدم الأكاديمي والوظيفي إلى جانب الحياة المادية الكريمة. إن حملة الكتاب هذه مفتعلة ليس إلا، وذلك لأن مطالبة الأطباء بتحسين أوضاعهم لا تمنع أصحاب الوظائف الأخرى من مطالبة مماثلة فهي حق أصيل لكل إنسان، خصوصاً في الوقت الذي يعاني فيه الجميع من الغلاء الفاحش. وعلى رغم عدم تحقيق مطلب أساسي وهو إيجاد كادر خاص يتناسب مع خصوصية مهنة الطبيب يضمن تدرجاً وظيفياً يتناسب مع طبيعة المهنة الأكاديمية والتعويض العادل عن مخاطر المهنة وساعات العمل الطويلة، فإن توجه الحكومة لتحسين أوضاع الأطباء وجهود الأطباء أنفسهم من خلال جمعيتهم وممثليهم بوزارة ا

العدد 1202 - الثلثاء 20 ديسمبر 2005م الموافق 19 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً