العدد 1210 - الأربعاء 28 ديسمبر 2005م الموافق 27 ذي القعدة 1426هـ

العراق والتوافق السياسي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى الآن لاتزال التظاهرات تجري في المناطق والمدن العراقية غير آبهة بالمفرقعات والمتفجرات احتجاجاً على ما وصفته بعض اللوائح بالتزوير الفاضح لصناديق الاقتراع، وإلى جانبها هناك مفاوضات تعقد على الهامش لترتيب الحصص وفق منطق التسويات العشائرية لإرضاء هذا الطرف أو ذاك منعاً للتشرذم والتفكك. بعيداً عن صحة الاتهامات بالتزوير وما ستسفر عنه الترتيبات العشائرية والمناطقية لتمثيل اللوائح المتنافسة في مجلس الشعب العراقي لابد من قراءة المسألة من زاوية اجتماعية تعكس مستوى التطور السياسي الذي وصلت إليه البلدان العربية و بلاد الرافدين. ما يحصل اليوم في العراق حصل مراراً في لبنان وهو صاحب تجربة عريقة في الانتخابات يعود عمرها الحديث إلى قرابة قرن. فلبنان دائماً وبعد كل انتخابات يبدأ فيه التراشق بالتزوير. والتزوير لا يقتصر على اتهامات بإخفاء صناديق أو تبديلها أو كسر بعضها بل يشمل أيضاً طبيعة القانون الانتخابي والتقسيمات الإدارية التي اعتمدتها السلطة للدوائر صغيرة أو متوسطة أو كبيرة (قضاء، محافظة، نصف محافظة). فالكل يعترض بسبب وجود تداخلات جغرافية مناطقية، وهي في الكلام اللبناني تعني ضمناً تشابكات طائفية مذهبية. وكل زعيم طائفة أو زعيم منطقة أو عشيرة يريد أن تكون خطة تقسيم الدوائر منسجمة مع امتداد العشيرة أو القبيلة أو المذهب أو الطائفة. وهذا من الأمور المستحيلة في بلد يتألف من مجموعات أهلية منقسمة طائفياً وموزعة جغرافياً على المناطق. وبسبب هذا التداخل والتشابك لجأ اللبنانيون إلى صيغة توافقية وزعت الحصص بحسب الأحجام والأوزان من دون انتباه لتعقيدات أخرى تتصل بالتطور السياسي وحاجاته ومتطلباته. فاللبناني مهما فعل فهو في النهاية ليس لبنانياً إلا في الهوية الجامعة ولكنه ميدانياً وعرفاً وعلى مستوى الحياة اليومية، فهو ابن فلان وابن تلك العشيرة وهذا المذهب وتلك الطائفة. فالهوية العامة (الدولة) هي الأضعف في لعبة توزيع الكراسي ومقاعد الحصص. الانتماءات المتوارثة في لبنان هي أقوى من الهوية اللبنانية. وفلان مهما فعل وتعلم ودرس وحاول أن يخرج على عادات القبيلة وقوانين الأسرة والعشيرة والطائفة والمذهب يبقى في نظر أبناء الطوائف والمذاهب والعشائر والأسر الأخرى مجرد نفر (صعلوك) متمرد على قواعد اللعبة التي اتفق على تسميتها بالديمقراطية التوافقية. فالتوافق هو الأساس ولايزال هذا المنطق هو الأقوى مهما ازداد عدد هذه الطائفة وتقلص عدد تلك. فالحصص محفوظة في معلبات جاهزة ولا يجوز مساسها أو كسرها وإلا انفرط عقد الصيغة وتحطم الكيان السياسي الذي يدعى «الجمهورية اللبنانية». هذا المنطق التوافقي تريد القوى السياسية العراقية استخدامه كوسيلة لاحتواء اعتراضات اللوائح التي حددت قوتها الانتخابية بهذه الكمية وجاءت نتائج فرز أصوات صناديق الاقتراع مخالفة لحساباتها وهذا المنطق لا يصح في بلد مختلف واذا طبق فمصيره الفشل. الصيغة اللبنانية قد تكون مناسبة وفي حالات معينة لإنقاذ الكيان السياسي (الدولة اللبنانية) من التفكك أو الذوبان. فالصيغة مبتكرة ومنسجمة مع طبيعة بلد يتميز بتعقيدات اجتماعية تشبه كثيراً جغرافيته المؤتلفة بين بحر وسهل وجبل ثم هضاب ووديان ومرتفعات شاهقة ومنخفضات ومتعرجات. التضاريس الاجتماعية في لبنان تشبه كثيراً تضاريسه الطبيعية، ولهذا تم التوافق على صيغة تشطيرية تتناسب كثيراً مع التشطير الطائفي/ المذهبي/ المناطقي/ العشائري التي يتألف منها المجتمع. هذا اللون الخاص لبناني الإنتاج والتأليف والتوزيع والإخراج... وممنوع تصديره إلى الخارج حتى لا يكون سبباً في تفجير الأوضاع في بلدان مستقرة أو متكيّفة مع عناصر ليس بالضرورة متشابهة مع الخصوصيات اللبنانية. العراق بحاجة إلى نوع من التوافق السياسي وهذا ليس بالضرورة أن يعكس نفسه على توافقات طائفية/ مذهبية. والتوافق السياسي يبدأ بالاتفاق على طرد الاحتلال وتعديل الدستور وإعادة تنظيم العلاقات في ضوء حاجات إعادة توليد دولة قابضة ترمم ذاك الانهيار الذي ضرب بلاد الرافدين وعصف بشبكة علاقات العراق الأهلية. القراءة الاجتماعية للانتخابات العراقية تتطلب عودة إلى السياسة والبدء منها لتجديد علاقات دمرتها الحرب على العراق. وهذه العودة السياسية هي حجر الأساس لإعادة بناء دولة جامعة، بينما الترتيبات الطائفية والتسويات المذهبية على الطريقة اللبنانية لا تجدي نفعاً، فهي زئبقية تتغير موسمياً وربما تزيد من الكراهية والحساسيات

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1210 - الأربعاء 28 ديسمبر 2005م الموافق 27 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً