العدد 1212 - الجمعة 30 ديسمبر 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1426هـ

يونس سلمان وعلاقة الشعر بهندسة الطيران

حين يورطك أحدهم بسيرته الذاتية

ما هو وجه الصلة بين الشعر، وهندسة الطائرات؟ يبدو أنْ لا صلة بين الاثنين. أليس كذلك؟ ولكن ثمة صلة عميقة. الشعر لا يمكنه أن يحلّق بحناحين ما لم يقبض الشاعر على الفكرة، ويدخلها في حيازته، ومن ثم يعمل على ضخ أكبر قدر من طاقة اللغة، ودفعها لمواجهة قانون عمره بعمر الأرض: «الجاذبية».

الطائرة والشعر صنوان، كلاهما تمردا بإعمال العقل والمخيلة والمحاولة على واحد من أكثر القوانين الفيزيائية سطوة في التاريخ الكوني: الجاذبية. وكلاهما انطلق من العقل والمخيلة، فيما الشعر يمتاز عن الطائرة بأزلية المحاولة، بل تمثل المحاولة طاقته الاحتياط التي تدفعه باستمرار لتركنا في القاعة والحقل والمدى المكشوف، مدهوشين لتلك الطاقة الخلاقة: المحاولة.

كل محاولة، رسم بياني تصاعدي نحو التمرد على السطح، باتجاه سقف لا نهائي، سقف العالم: السماء. وكل تنازل عن تلك المحاولة، هو بمثابة أول إشارات الخَرَف في المخيلة البشرية وتآكلها، وإيذان بعربدة الرسم البياني التنازلي على إرث وحاضر ومستقبل تلك المخيلة.

للطائرة جناحان، وللشعر غابات من أجنحة، وتخضع الطائرة لقوانين فيزيائية تدفع بها الى التخلص من وصمة السطح، فيما الشعر خلق ووجد وسيظل بمنأى عن كل ما يرتبط بالارتطام، بكل ما يرتبط بالقوانين، حتى العروض باعتباره اول قانون «أمني» تُمنى به القصيدة، لم يستطع أن يصمد أمام حال التمرد الكبرى التي يتمتع بها الشعر باعتباره خارجا نبيلا على تلك القوانين.

الطائرة مهددة بالأنواء، والتقلبات الجوية والمناخية، فيما الشعر يستمد جزءاً من طاقته وحرارته وتجلياته من تلك الأنواء والتقلبات.

تبدو مقدمة منهكة بعض الشيء، ولكن السيرة في كثير من الأحيان تقودك الى مساحات ليست في الحسبان. عمدت الى شطب مقدمة هذا الملف لأكثر من ثلاث مرات... بعض نصوص الأثير على القلب والروح الشاعر المتميز يونس سلمان، كان حاضرا قبل أن يبعثها إلى «الوسط» من خلال البريد الإلكتروني، مشفوعة بسيرته الذاتية. لم يستوقفني في السيرة تعاون فني مع عدد من المطربين الخليجيين الكبار، من دون أن ينقص ذلك من أثره وتأثيره وحضوره، بل على العكس، هو واحد من الإضاءات الغامرة التي احتكرها ولم تتح لعدد من مجايليه. ما استوقفني من السيرة حزمة من انشغالات واشتغالات متناقضة، أو هكذا تبدو.

تخصص في القانون، فيما الشعر واحد من أكبر المشاغبين والخارجين على القوانين، تعاون مفرح وطويل وعريض مع عدد من الأصوات الغنائية التي أعتقد - وبكل ثقة - أن معظمها فشل في استيعاب امكانات المفردة لدى يونس سلمان، باستثناء أصيل أبوبكر، فيما الآخرون كانوا بمثابة «دلالي سيارات مستعملة» في مزاد لا يحضره إلا المجاورون لساحة المزاد!

تكشف السيرة أيضا عن إشراف على الإذاعة الإنجليزية بهيئة الإذاعة والتلفزيون، والإذاعة بطبعها ثرثارة الكترونية، وعاطلة عن العمل! والشاعر بطبعه عدو للثرثرة... الثرثرة خميرة مضاعفة بعشرات المرات لاشك أنها ستخرب أية كعكة يراد الاحتفال بها أو من خلالها، ومقدّر أن تقدّم لضيوف استثنائيين، والثرثرة في الشعر خَرَفٌ مبكّر في القصيدة.

في السيرة أيضا ما يفرحني ويفرح هذه الصفحة: دورات في الترجمة، ما يدفعني الى استدراجه الى مساحة لم يستجب لها هو، و لم يتجرأ عليها أحد ، مساحة «من العالمية إلى النبطية».

يا الله، كم أشعر أن هذه الساحة فقيرة الى درجة اقتراح انشاء أكثر من صندوق زكاة، وأكثر من مشروع «وطني للتوظيف» كي لا تخرج في مظاهرة تزعج البلاد والعباد! باستثناء أسماء لها كل الإجلال والاحترام والتقدير.

هل يمكن للقصيدة أن تخرج في مظاهرة؟ وما الذي يمنعها من ذلك؟ كل قصيدة مستفزة، متمردة، خارجة، انقلابية، هي في الصميم من رفض سذاجة الكلام والخطاب والسياسات والقرارات والنظر والشم والسمع. ويونس سلمان في جل قصائده راعٍ ومحرّض على خروج نصوصه في مظاهرات ومسيرات مستفزة ومتمردة وخارجة ومنقلبة على ذائقة في الهزيع الأخير من العمر.

ربما هي المرة الأولى، ضمن تجربتي في الكتابة التي أعمد فيها الى الانطلاق في قراءة أي مشروع ابداعي، سواء كان شعريا أو قصصيا، أو روائيا، من خلال السيرة الذاتية. وما يدفعك الى الانطلاق منها، هو غناها وتنوعها، وما يشبه التناقض فيها كما أسلفت في بداية هذا المقال، فيما هي ليست بتلك الصورة التي يعتقدها كثيرون.

الغنى والتنوع و«وهم» التناقض في السيرة، يكشف عن أمرين:

الأول، يرتبط بكم هائل من الخبرات، لا يمكن لأي شاعر أو قاص أو روائي أو فنان، أن يشعر بحال من التنافر بينها، وإلا لم يسع اليها، ولم يحرص على تحققها وتراكمها، وذلك يكشف عن مدى حاجته الى مثل ذلك التراكم الذي يعززه ويوظفه في التجربة بشكل واعٍ ومدرك، يعمل عمله في تعميقها ورفدها ببانوراما من الخبرات التي يشد بعضها بعضاً.

والثاني، ليس بالضرورة أن يتم توظيف تلك الخبرات في جانبها المتنافر والمتناقض،اذ مجرد مثولها وحضورها يتيح لأي واحد منا رفدا ودعما لمساحة كبيرة من الوعي والإدراك.

يونس سلمان في الصميم من ذلك الوعي والإدراك، ولا أكشف سرا إذا ما أشرت الى انه واحد من المثقفين المعدودين في شعراء العامية والشعبية، وكي أكون أكثر تحديدا، هو من القلة التي تكشف سعة في ثقافتها وفكرها وادراكها ووعيها في تشخيص وتوصيف الدقيق من المسائل، هي في الهامش من صوغ النص. محدّث لبق وذكي وعميق فيما يرتبط بهذا الجانب، ربما لا يوفّق أو يتردد في كتابة ومنهجة ذلك التشخيص والتوصيف، وتلك احدى مؤاخذاتي ومؤاخذات كثيرين عليه. لكن ذلك لا يقلل من أهميته وحضوره ومركزه المتقدم في هذا المجال.

الانطلاق من السيرة تحرٍّ لكمّ وعمق الخبرات، ومحاولة للدخول المختلف والتناول المغاير - وربما المهمل - من التجارب الشعرية العامية والشعبية في التجربة الخليجية عموما والبحرينية خصوصا. ولا أمارس حالا من المجاملة والتضخيم حين أصر على مركزية حضور وأهمية أسماء هي في العميق من تجربتنا في مملكة البحرين: يونس سلمان، عبدالله حماد، لحدان صباح الكبيسي، بدر الدوسري، خليفة اللحدان، علي عبدالله خليفة، سلمان الحايكي، أمينة الشيخ، فيصل الفهد، سعد الدوسري، ابراهيم المقابي، اسماعيل عبدعلي، أمينة الشيخ، أميرة الشعر النبطي البحريني ريمية، المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، الشيخة لولوة آل خليفة، من دون أن ننسى قرينة عاهل البلاد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ووالدة سمو الشيخ ناصر والشيخ خالد، والشاعرة ظما الوجدان، وعلي الشرقاوي (الذي لا أحب تجربته، ولكنه رقم لا يمكن تجاهله في هذا الصدد).

النصوص الماثلة أمامي - ويجد القارئ نماذج منها منشورة في هذا الملف - تمثل جانبا من تجربة الشاعر سلمان الذي لم يتعجّل تطورها وصعودها الملفت، واشتغل بأناة وصبر وتحرّس وقراءات واطلاع مستمرين، معززا إياها بالمتنوع والمختلف من الخبرات، شاقة طريقها بثقة محمودة وملفتة أيضا، لتتبوأ مكانتها في المشهد الشعري العامي والشعبي البحريني.

لم أتعرّض لقراءة النصوص لسببين:

الأول، انها لا تحتاج منك الى كبير جهد كي تعانقها وتحبها وتعلن حالا من الصلح مع نفسك ومعها، ليس لمباشرتها، بل لقدرتها على قول ما لم تستطع قوله، بسيطة كماء، حرة كفضاء، معقدة في الوقت نفسه كمحرك طائرة!

والثاني، أن تجربة هذا الرجل، ذهبت عميقا في حضورها ولفتها الانتباه، بحيث أثارت فضول عدد من مطربي منطقة الخليج، ما يكشف في الوقت نفسه عن استعداد لديه للخروج من الدائرة المغلقة والمحدودة الى فضاء أوسع وأرحب، ومن خلال أشكال تعبيرية باتت حاضرة ولها تأثيرها البالغ (الأغنية).

يونس سلمان: نحبك في الله والشعر!


أمينة الشيخ: يونس سلمان شاعر «الحيوية»

ربما يكون الشاعر يونس سلمان واحدا من شعراء «الحيوية» إذا صح التعبير، بتحركه الدائم خارج الفضاء المكاني الذي استسلم له كثيرون، وظلوا مشدودين اليه، أحياناً بموقف عاطفي، طبيعي، وأحياناً أخرى بسبب حالة من الكسل والخمول المستشري، والذي يكاد يكون علامة مسجّلة للساحة الشعرية البحرينية مقارنة بنظيراتها في دول الخليج العربية.

تتبعي لحضور ونصوص سلمان، بدأ منذ «صدى المشاعر» في الأسبوعية التي قضت نحبها «صدى الأسبوع»، وفيما ينشر في الصحف المحلية، لكن ما استرعى انتباهي أكثر هو تسجيله للتعاون مع عدد من الأصوات الفنية الخليجية التي حققت انتشارا وحضورا بارزا. ما يؤكد مسألة الحيوية تلك في جانب مهم وثري من جوانبها.

الديري: لغته قادرة على اثارة مكامن المشاعر الإنسانية

ربما تكون لغة يونس هي أكثر ما يستوقفك في تجربته، فهي الى جانب رقتها وعذوبتها قادرة على اثارة مكامن الكثير من المشاعر الإنسانية، خصوصاً عندما تتعلق بتجربة شخصية عاشها يونس أو حاول تقمصها. ولاشك أن يونس حتى عندما اختار الغناء كمنفذ للتعبير عن روحه الرومانسية كان يتوخى تأكيد المساحة الرحبة التي توّفرها اللغة.

الفهد: تميز في الشعر الغنائي

أعتقد أن تجربة يونس هي في حد ذاتها تجربة متميزة في الشعر الغنائي ومكسب لاسم بحريني موجود بالخليج وقادر على منافسة شعراء الأغنية في الخليج. يونس يقرأ ويكتب القصيدة النبطية ولديه قدرة على التحكم في معانيها وكلماتها وقوافيها، ولكنه - بحسب ما أسرّ لي - يفضل القصيدة الغنائية، لأنه يسعى إلى السهل الممتنع. وهو ما أكسب قصيدته الغنائية حضوراً متميزاً.

الجميري: شاعر متنوع بامتياز

لقد لمست تجربة يونس منذ وقت مبكر، إذ إنه لا ينفصل عن تجربتي سوى بعام واحد. والحق أقول إن تجربة يونس تجربة جميلة وخصوصاً أنه من القلة التي لاتزال محافظة على الطابع البحريني، ذلك الطابع الذي امتد ليشمل حتى طريقة حياته فهو إنسان متميز في معاملاته وحسن خلقه. ولكن للأسف فإنه لا يوجد لدينا نجوم في البحرين أسوة ببقية دول الخليج ولو كان ذلك موجوداً لكان يونس من هؤلاء. فهو شاعر غنائي

العدد 1212 - الجمعة 30 ديسمبر 2005م الموافق 29 ذي القعدة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً