العدد 3017 - الخميس 09 ديسمبر 2010م الموافق 03 محرم 1432هـ

نشأة الفكرة الشمولية في الفكر الإسلامي

محمد سيد حسين comments [at] alwasatnews.com

منذ أنزل الله سبحانه وحيه على نبيه (ص) كان من أبرز سمات هذه الرسالة الخاتمة أنها جاءت تحمل منهاجا يشمل كافة جوانب الحياة وينظم سائر شئون الإنسان في علاقته بربه وبالكون وبالإنسان، وأنها ليست رسالة إصلاحية في جانب من جوانب الحياة دون سائر الجوانب، ولكنها رسالة شاملة تجيب عن كافة الأسئلة وترسم منها ما يعالج أمور الحياة كافة.

(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين).

(ونزلنا إليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين).

وقد جاء التطبيق النبوي لهذه السمة من سمات الرسالة القائمة تطبيقا عاكسا لها، ورافضا منذ بواكير الدعوة أن يؤخذ منها جزء دون جزء أو جانب دون جانب، فلا يأخذ هذا الأمر إلا من يحيط به كله، أو بتعبير النبي (ص) في الحديث الذي رواه البيهقي وأبو نعيم: «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» (الجامع الكبير للسيوطي 34034).

فمارس الرسول (ص) بذاته أمور الحكم والقضاء وقيادة الدولة، فضلا عن الأمور التعبدية المحضة، فكان إماما في الدين والدنيا.

وسارت الأمة على هذا الدرب سواء في عصور ازدهارها أو انحطاطها حتى كانت النكبة الكبرى بالقضاء على الخلافة العثمانية، وما عاشته الأمة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من انسلاخ الأمة من ثوبها الإسلامي في العديد من أمور حياتها، ومن أبرزها الجانب التشريعي؛ الأمر الذي تحول معه الإسلام شيئا فشيئا حتى كاد ينزوي بين جدران المساجد لأداء الصلوات وبعض الطقوس التي غلب عليها الجانب الصوفي، ولكنها صوفية مشوهة تغيب العقل والوعي وتنحرف بمفاهيم الإسلام الصافية... وتضاءل دور علماء الإسلام وضعف تأثيرهم في الأمة.

في حين تعاظم دور العديد من المفكرين الذين ولوا وجوههم شطر الغرب وثقافته، فأصبحت قبلتهم وكعبتهم هناك في السوربون أو لندن، وهؤلاء كانت لهم اليد الطولى في تسيير الجانب الفكري والتعليمي في البلاد؛ الأمر الذي ترك أثره واضحا على خريجي المعاهد التعليمية والمدارس التابعة للدولة، فضلا عن انتشار مدارس الإرساليات والمدارس التبشيرية وإنشاء الجامعة الأميركية في لبنان ثم في مصر.


ظهور مبدأ الشمولية في الفكر الإسلامي المعاصر:

وسط هذه الأجواء كان لابد أن يبزغ فجر يقظة إسلامية، وأن يتفجر شعور إسلامي قوي من قلوب نفر من أبناء الأمة كانوا يراقبون هذا الوضع ويعيشونه، ويرون الأمة تسلخ شخصيتها وتجتث هويتها وهم ينظرون.

وهاك الشيخ حسن البنا يصور في مذكراته هذا الذي أسلفناه فيقول: «وليس يعلم إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في علاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء» (مجموعة الرسائل ص 117).

فما كان بد من التحرك، ذلك التحرك الذي جاء في صور عديدة ومحاولات بعضها فردي وبعضها جماعي. فشهد النصف الأول من القرن العشرين العديد من محاولات البعث الإسلامي في أكثر من قطر من أقطار العالم الإسلامي، من مصر إلى باكستان، ومن الجزائر إلى الهند.

ولما كانت هذه اليقظة الإسلامية التي تمثلت في الحركة الإسلامية المعاصرة بفصائلها المتعددة جاءت ضمن ما جاءت رد فعل لتلك المحاولات الدؤوبة لسلخ شخصية الأمة والقضاء على هويتها الإسلامية، ولتحجيم الإسلام حتى يتحول طقوسا في زوايا واحتفالات في مناسبات، لا شأن له بأمور الحياة، وللفصل القاهر بين حياة الناس بكافة ضواحيها وبين الإسلام، الأمر الذي بلغ أن كتب أحد علماء الأزهر أو المحسوبين عليهم كتابا يدافع فيه عن العلمانية كنظام يفصل بين الدين والدولة، ويصور الإسلام بأنه دين روحي لا علاقة له بحياة الناس السياسية أو الاقتصادية (الشيخ علي عبدالرازق في الإسلام وأصول الحكم).

وشاعت هذه الدعوة في أرجاء العالم الإسلامي حتى بات مقبولا غير مرذول دعوى فصل الدين عن الدولة واحتكام الأمة إلى غير شريعة الإسلام في كافة شئونها عدا زاوية ضئيلة منها هي الزواج والطلاق والميراث.

وإذ قامت الحركة الإسلامية لتتصدى لذلك كله فكان لابد أن تأتي مسألة إعادة الأمة إلى ذاكرتها وحقيقة إسلامها الذي يستوعب أمور الحياة الدنيا والآخرة، ولا يقبل قط من المسلم أن يعيش بالإسلام في المسجد فإذا خرج منه ذهب يتعامل بغيره بيعا وشراء أو زواجا وطلاقا أو خلقا وقضاءً.

لذلك جاءت مسألة إعادة الأمة إلى الفهم الصحيح لدينها كدين يستوعب حياتها كلها في أولويات كثير من فصائل الحركة الإسلامية. وجاءت دعوة الإخوان المسلمين في مصر وفي مقدمة شعاراتها التي سعت لإقناع الجماهير بها: إن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف، عقيدة وعبادة، خلق وقوة…

ولم تكن تجربة الجماعة الإسلامية في باكستان بعيدة عن تجربة الإخوان في مصر، وإن كانت الثانية أسبق زمنا، لكنهما التقيا في جوهر ما يدعوان إليه، حيث انطلقت دعوة كل منهما وفي مقدمة أهدافهما إعادة الجماهير المسلمة إلى فهم الإسلام فهما شاملا يستوعب حياتها كلها ويصوغ كافة شئونها السياسية والاقتصادية والتعليمية… وغير ذلك.

وحتى قبل أن يلج الإخوان في مصر الميدان السياسي ويصبحوا أحد أهم القوى المؤثرة في هذا الميدان، حتى قبل ذلك اتضح تماما من كلمات الشيخ البنا الأولى أنه لا يريد للدعوة أن تنزوي في مساجد، أو يقف اهتمامها على عبادات وأخلاقيات، إنما أن تحدد موقفها من كافة القضايا وفي مقدمتها القضايا الفكرية والسياسية.

فيعلن في وضوح أن «العالمية والقومية والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية والحرب وتوزيع الثروة والصلة بين المنتج والمستهلك وما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال (ساسة الأمم)، وفلاسفة الاجتماع… كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض في لبها ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن وتجنب ما تستتبعه من خطر وويلات» (مجموعة الرسائل، بيروت: المؤسسة الإسلامية ط 3 ص 47).

وفي نفس الرسالة «إلى أي شيء ندعو الناس» يتكلم عن إصلاح القانون الذي «يجب أن يكون مستمدا من أحكام الشريعة الإسلامية مأخوذا عن القرآن الكريم متفقا مع أصول الفقه الإسلامي. وإن في الشريعة الإسلامية وفيما وصفه المشرعون المسلمون ما يسد الثغرة ويفي بالحاجة وينقع الغلة ويؤدي إلى أفضل النتائج وأبرك الثمرات» (السابعة ص 48).

وما نحسب تجربة الجماعة الإسلامية بباكستان اختلفت كثيرا - من الناحية النظرية على الأقل - عن تجربة الإخوان في مصر؛ فكتابات المودودي واضحة كل الوضوح في هذا الجانب (انظر منهاج الانقلاب الإسلامي).

وقد كانت هناك جماعات أخرى إسلامية على الساحة، وهي إن لم تعلن صراحة كالإخوان المسلمين أنها قامت للتصدي لفكرة حصر الإسلام في جنبات المساجد، بل وإن بدا للبعض أن هذه الجماعات أو بعضها كالجمعية الشرعية، وجمعية أنصار السنة المحمدية وكلاهما في مصر، وجماعة التبليغ التي عظم نشاطها في باكستان والهند... أقول: وإن بدا للبعض أن هذه الجمعيات نأت بنفسها تماما عن الميدان السياسي وآثرت الاهتمام بالجانب العبادي أو العقائدي أو الأخلاقي فإننا لا نستطيع أن ننسب إلى هذه الجماعات أنها فصلت من الناحية الفكرية بين الدين والدولة أو بين الدين وأي من أمور الحياة، كما تدعو العلمانية.

ليس ذلك صحيحا، ولا نرى في أدبيات هذه الجماعات ما يدل من قريب أو بعيد أنها تثبت فكرة فصل الدين عن الدولة أو السياسة. وغاية ما في الأمر أنها رأت لمصلحة شرعية أن يكون تركيزها على جانب من جوانب الإسلام، إما لأنه الأهم في نظرها، وإما لتفادي الاصطدام بالأنظمة الحاكمة.

لكننا لم نعثر على جماعة من الجماعات العاملة في ميدان الدعوة الإسلامية تبنت من الناحية الفكرية فكرة فصل الدين عن الدولة؛ لأنها حينئذ سوف يصعب وصفها بأنها قامت منطلقة من فكرة إسلامية أساسها القرآن الكريم، وستكون قد تنكرت لفكرة الحكم والخلافة التي عاش المسلمون أكثر من ألف وثلاثمئة عام يلتفون حولها ويؤمنون بضرورة وجودها.

العدد 3017 - الخميس 09 ديسمبر 2010م الموافق 03 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً