العدد 3038 - الخميس 30 ديسمبر 2010م الموافق 24 محرم 1432هـ

اللحظات الأخيرة في حياة ابن الخطيب

ابن خلدون بين السياسي والثقافي (5)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

يفترض أن ابن خلدون كتب خطابه إلى ابن الخطيب في سنة 770هـ (1368م)، لأنه تلقى بعده رسالة ثالثة من صديقه كتبها له من غرناطة (قبل غضب السلطان عليه) في سنة 771هـ (1369م)، وفيها القليل من الكلام والموجز من الأخبار، لكنها تكشف عن وضع غامض سبق وعبر عنه في رسالتيه السابقتين بالحديث عن الضجر وتعويض الفراغ بالانكباب على الفكر والكتابة عن غرناطة وتاريخها. وأبرز ما ورد فيها تلك الفقرات التي تعتذر عن التقصير في الاتصال والاستفسار عن أحواله وأعماله إلى أن «اغتنمت سفر هذا الشيخ وافد الحرمين بمجموع الفتوح في إيصال كتابي هذا».

وترد في خطاب الوزير المؤرخ مجموعة إشارات غير واضحة تتحدث عن «ظاهر الأمور علية في تعريفكم بها» و»البواطن فمما لا يتأتى كثرة وضنانة» إلى أن ينفجر ويخبره «إني قد بلغ بي الماء الزبى، واستولى عليَّ سوء المزاج المنحرف، وتوالت الأمراض، وأعوز العلاج، لبقاء السبب والعجز عن دفعه (...) جعل الله العاقبة فيها إلى خير، ولم أترك وجهاً من وجوه الحيلة إلا بذلته (...) ولولا أنني بعدكم شغلت الفكر بهذر التأليف مع الزهد. وبعد العهد، وعدم الالماع بمطالعة الكتب». ثم يذكر آخر ما صدر له وهو عبارة عن «كُناش» وسماه «استنزال اللطف الموجود في أسر الوجود»، وتمنى على ابن خلدون الاطلاع عليه إلى قراءة كتابه «في المحبة». وبعد أن يختم رسالته، يتذكر مسألة وضعها كملاحظة في نهاية خطابه، يسأله فيها أن لا يعاتبه على تقصير منه، ويطلب منه معلومات عن أوضاع المغرب وأخباره، إذ سمع أن «الركب يتوّجه منه فلا أدري هل بلغكم شيء من ذلك أم لا؟». (التعريف، ص 514).

على رغم قصر رسالة ابن الخطيب الثالثة قياساً بما سبقها إلا أنها الأهم. فإلى جانب غموض بعض جوانبها تكشف عن أحواله السياسية ومرضه الغريب الذي لا شفاء منه وعزلته وانشغاله بالتأليف والابتعاد عن الناس والزهد. ويربط حالاته السياسية والنفسية والمرضية بفترة مغادرة ابن خلدون الأندلس على خلاف معه. ويبدو أن عوارض المرض بدأت تظهر في تلك الأيام وتطورت إلى حد بات مزاجه يميل إلى الانحراف في وقت كانت الدولة تستعيد عافيتها في مقارعة ممالك الأفرنج.

ينتبه ابن خلدون أنه أطال الحديث عن صديقه المؤرخ وأعطاه حصة كبيرة في مذكراته، إذ نشر نصوص رسائله كاملة إلى جوابه اليتيم آنذاك وشكك فيه بإمكانات صمود الدولة في غرناطة واعتبر الأمر مجرد لحظات قوة في مرحلة ضعف واعتلال.

توقعات ابن خلدون جاءت في محلها حين أصاب في كلامه، إذ ما لبث سلطان غرناطة أن انقلب على وزيره بسبب التحريض والدسائس ودخل في حرب طويلة ليس ضد ممالك الأفرنج بل ضد دولة «بنو مرين» في المغرب.

يعتذر ابن خلدون عن التطويل في «ذكر هذه المخاطبات. وإن كانت، فيما يظهر، خارجة عن غرض الكتاب، لأن فيها كثيراً من أخباري، وشرح حالي. فيستوفي ذلك منها من يتشوف إليه من المطالعين للكتاب». (التعريف، ص 515). فصاحب المقدمة الذي كتب مذكراته في سنواته الأخيرة يرى أن حالات صديقه المؤرخ الذي شرح وضعه في خطابات خاصة وجهها إليه قبل 39 سنة تنطبق الآن على أخباره هو وحالاته.

يتوقف ابن خلدون عن ذكر صديقه ليتحدث عن اضطراب الأوضاع في المغرب والأندلس بينما هو كان في حال انقطاع في بسكرة وبلغه «مفر الوزير ابن الخطيب من الأندلس، وقدومه إلى السلطان بتلمسان، توجس الخيفة من سلطانه، بما كان له من الاستبداد عليه وكثرة السِّعاية من البطانة فيه» (التعريف، ص 519). ويعود مرة أخرى للحديث عنه وخبر استقباله في تلمسان من قبل صاحبها إذ «تلقاه السلطان من الحظوة والتقريب وإدرار النعم بما لا يعهد بمثله». (التعريف، ص 519).

أهم ما في الخبر ذكر ابن خلدون أنه تلقى رسالة رابعة من ابن الخطيب بعثها بعد وصوله إلى تلمسان يخبره فيها قصته إلى بعض «العتاب على ما بلغه من حديثي الأول بالأندلس». ويبدو أن تلك الرسالة أزعجت ابن خلدون وأثارته مجدداً بعد أن عادت المياه إلى مجاريها فنشر رده عليها، ولم ينشر رسالة صديقه بذريعة أنه أضاعها «لم يحضرني الآن كتابه»، الأمر الذي يشير إلى عودة الصداقة إلى الاضطراب.

كتب ابن خلدون رده في خطاب طويل أرسله في سنة 772هـ (1370م) من بسكرة يذكر فيه أشواقه واحترامه و «أنتم أعلم بما في نفسي وأكبر شهادة في خفايا ضميري» (التعريف، ص 520). ويشير إلى تلك الظنون التي كادت أن تكلفه حياته «فلا تظنوا بي الظنون ولا تصدقوا في التوهمات». ويشرح له أسباب تأخر خطابه الذي أرسله من تلمسان إلى غرناطة «لقديم ما بين الدولتين من الاتحاد والمظاهرة واتصال اليد»، ثم أجل خطابه الثاني بعد أن وصلت أخبار «خلوصكم إلى المغرب (...) فأرجيت الخطاب إلى استجلائها». ثم يمدحه على كتابه الجديد الذي يكشف عن «تنويع الحال لديكم»، ويشجعه على متابعة التأليف والتفرغ للكتابة و «الأعراض عن الدنيا ونزع اليد من حطامها عند الأصحاب والإقبال» (التعريف، ص 521).

بعد جواب ابن خلدون عادت الصداقة المقموعة إلى التحسن، فأرسل ابن الخطيب نسخة عن رسالة بعثها إلى «سلطانه ابن الأحمر صاحب الأندلس» عندما «دخل جبل الفتح وصار إلى ايالة بني مرين»، ورأى أن ينشرها في «التعريف» لزيادة الاطلاع «على أخبار الدول في تفاصيل أحوالها» (التعريف، ص 522).

معظم رسالة ابن الخطيب إلى سلطانه اعتذاري وتوضيحي لكل سوء فهم حصل عنده، ويرى «أن لابد لكل أول من آخر». وبعد أن يشرح له ظروفه ووضعه يطلب منه الإذن بالعودة «إلى ولدي وتربتي» لأن كل تصرفاته كانت عن حسن نية «لم يتخلل ذلك قط خيانة في مال أو سر ولا غش في تدبير» وإذا كان هناك من خطأ فهو يطلب الصفح والمغفرة و»إذا فعلتم ذلك فقد رضيت». وينتهي أخيراً إلى مخاطبة سلطانه بالقول «إني ما تركت لكم وجه نصيحة في دين، ولا في دنيا، إلا وقد وفيتها لكم، ولا فارقتكم إلا عن عجز، ومن ظن خلاف هذا فقد ظلمني وظلمكم» (التعريف، ص 525).

أصر ابن خلدون على نشر كل رسائل ابن الخطيب وأوراقه في مذكراته. ولم ينس رسالة تهنئة بعثها إليه بمناسبة مولوده (زيد). ويدل الإصرار على مكانة الوزير المؤرخ في حياته ومدى إعجابه به على رغم الوحشة التي طرأت مراراً على صداقتهما. فهو ينشر كتاب ابن الخطيب الذي أرسله سلطانه من غرناطة إلى سلطان تونس يخبر فيه الأخير عن أحوال الأندلس وعودة شوكة الإسلام ونجاح المسلمين في تحرير الكثير من الحصون والمواقع والقلاع (حصن آشر) والمدن (برغة، أطريرة، جيان، إبدة، وقرطبة) لتأكيد الأخبار التي سبق وبشره بها في خطاب خاص.

يدل الإصرار المذكور إلى جانب الإعجاب والاحترام على محاولة ابن خلدون تبرئة ابن الخطيب من الاتهامات التي وجهت إليه من قبل «أهل السعايات والوشاية». فالرسائل والخطابات تكشف عن فرح الوزير المؤرخ بالانتصارات وإخلاصه للسلطان وهي صفات مشابهة لصفاته هو التي تعرضت مراراً للوشاية والأكاذيب من خصومه. فأهل السعايات استمروا في إثارة الشكوك ضد ابن الخطيب الذي كان حسب وصف ابن خلدون «آية من آيات الله في النظم والنثر والمعارف والأدب، لا يساجل مداه ولا يُهتدى فيها بمثل هداه» (التعريف، ص 527). وانتهى تحريض أهل السعايات للسلطان ضد ابن الخطيب إلى مقتل الأخير خنقاً في السجن في وقت كان ابن خلدون يقوم بواسطة للإفراج عنه في غرناطة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 3038 - الخميس 30 ديسمبر 2010م الموافق 24 محرم 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً