العدد 3079 - الأربعاء 09 فبراير 2011م الموافق 06 ربيع الاول 1432هـ

البالونة الخضراء*

قصة قصيرة - إبراهيم راشد الدوسري 

09 فبراير 2011

يخطر كهلال بين تلال الغيم في بساتين السماء، يرفرف كعصفور صغير، يغمره الفرح وهو يرى جناحيه يخفقان في الهواء لأول مرة. يتقافز ما بين أمه وأبيه اللذين يسيران على الرصيف المزدحم بالعابرين وهما صامتان واجمان، أصابع يده اليمنى ممسكة بخيط أزرق ينتهي ببالونة خضراء، تتمايل فوق رأسه، عيناه نجمتان تبتسمان تتابعان بانبهار البالونة وهي تعلو وتنخفض، وتتأرجح في الهواء.

(2)

توقفت البالونة أمام وجهه، ظهرت في البالونة مجموعة من النوافذ انفرجت أضلاف النوافذ فخرجت منها أسراب فراشات ملونة وعصافير. راحت تحلق حول الطفل وحلت بعضها على كتفيه... صاح الطفل بفرح:

- أمي، أبي. أنظرا إلى الفراشات والعصافير، لقد خرجت كلها من البالونة.

نظرت الأم إلى الطفل ببرود. ثم أشاحت بوجهها عنه وهي تغمغم.

- أحمق كأبيك، لا شيء في البالونة سوى الهواء.

قال الأب في نفسه دون أن يلتفت إلى الطفل:

- يبدو أنك ورثت غباء أمك.

( 3 )

في السيارة جلس الأب خلف المقود مكفهر الوجه، جلست الأم بجواره تتأفف، وركب الطفل في المقعد الخلفي، أخرج البالونة من النافذة ويده تمسك بخيطها بقوة، اندفعت السيارة في الطريق، راحت البالونة تخفق في الهواء، والطفل يراقبها بنشوة، خرجت من نوافذ البالونة أسراب جديدة من الفراشات والعصافير، راحت تحلق حول السيارة وفوقها وخلفها وأمامها. ودخلت مجموعات منها داخل السيارة وحطت على المقاعد وفوق المقود وعلى أكتاف الطفل والأم والأب ثم راحت العصافير والفراشات تغني وترقص والطفل يردد معها الغناء.

في غمرة سعادته، صاح الطفل:

- أمي أبي لقد خرجت من نوافذ البالونة أسراب جديدة من العصافير والفراشات وها هي تنتشر داخل السيارة وهي تغني أيضا أغنية جميلة.

هز الأب رأسه ساخطاً وهو يضغط على أسنانه وقال في نفسه:

- رأسك مثل رأس هذه الحمقاء التي تجلس بجواري، ليس بداخل رأسيكما سوى الخبل والتخاريف والنكد.

التفتت الأم وحدقت في الطفل ونهرته قائلة:

- أي عصافير وفراشات تتحدث عنها؟ قلت لك البالونات لا يسكن بداخلها سوى الهواء.

(4)

في المنزل وقت العشاء خلف طاولة الطعام جلس الزوج وزوجته متباعدين، لا صوت سوى صوت مضغ الطعام، عينا كل منهما موجهتان إلى طبق الطعام والطفل في الشرفة يلهو مع البالونة والعصافير والفراشات، دخل غرفة الطعام وهو يحمل البالونة والعصافير والفراشات تتبعه. جلس خلف الطاولة متوسطا بين أمه وأبيه، ربط خيط البالونة في طرف المقعد الذي يجلس عليه، حطت العصافير والفراشات على الطاولة، وراحت تغني وترقص، أخذ الطفل يقطع الرغيف ويقدمه قطعا صغيرة إلى العصافير والفراشات على الطاولة.

قال الطفل مبتهجاً:

- أبي، أمي، انظرا إلى ضيوفنا الأعزاء ها هي الفراشات والعصافير التي خرجت من البالونة تشاركنا طعام العشاء، إنها لاتزال تغني وترقص وهي تتناول نتف الرغيف التي أقدمها لها.

(5)

رفع الأب والأم وجهيهما عن طبقيهما وراحا ينظران إلى الطفل، صاح الأب بحنق في وجه الطفل:

- توقف أيها الأحمق، فليس على الطاولة عصافير ولا فراشات.

قالت الأم بغضب وهي مكفهرة الوجه:

- هل جننت يا ولد؟ هيا كل وأنت صامت.

قال الطفل وهو يواصل تقديم قطع الرغيف إلى الفراشات والعصافير:

- كيف لا أطعم أصدقائي؟

صاحت الأم مقاطعة الطفل:

- قلت لك لا شيء بداخل البالونة سوى الهواء، هواء فقط.

تجهم وجه الطفل وارتسم الحزن على محياه واغرورقت في عينيه الدموع. توقفت العصافير والفراشات عن الغناء وراحت تنظر إلى الطفل بحنان ثم صاح الطفل في عناد وإصرار والعبرات تخنقه:

- لقد أفزعتما العصافير والفراشات بصراخكما.

( 6 )

أزاح الأب طبق الطعام من أمامه فسقط من على الطاولة وتهشم على الأرض وتناثرت من حوله بقايا الطعام، ثم انتصب واقفا وهو يغلي من شدة الغضب ورفس الطاولة وأخذ البالونة وضغط عليها بين راحتي يديه حتى انفجرت، وقذف بها على الطاولة واتجه إلى المطبخ وهو يرغي ويلعن ويشتم زوجته والطفل، طارت العصافير والفراشات مذعورة وراحت تحلق وهي تتخبط تحت السقف وفي أرجاء المنزل ثم اتجهت جميعها إلى الشرفة وفرت هاربة.

(7)

رفعت الأم الأطباق وبقايا الطعام من على الطاولة واتجهت إلى المطبخ وهي تلعن وتسب الطفل وأباه.

ظل الطفل وحيدا خلف طاولة الطعام والحزن يعصر قلبه، وعيناه مسمرتين في نتف البالونة الممزقة المنتشرة على الطاولة، وكان صراخ أبيه وأمه وهما يتشاجران يصل إليه من المطبخ، مد الطفل يديه إلى نتف البالونة ورفعها وراح يتأملها ثم ضمها إلى صدره، ثم قام ودخل غرفة نومه ووضع نتف البالونة الممزقة تحت الوسادة وحين نام حلم بالعصافير والفراشات وهي تحلق حول أبيه وأمه وهو بينهما يداعبانه والسعادة تغمرهما.

( 8 )

حين استيقظ في الصباح، أخذ نتف البالونة الممزقة واتجه إلى الشرفة، وضع نتف البالونة في راحتي يديه، مد يديه ارتفعت نتف البالونة في الهواء، تماسكت، استوت، انتفخت، ثم عادت من جديد بالونة خضراء ومن فتحتها امتد خيط أزرق استقر بين يديه وراحت تتأرجح أمامه وخرجت من نوافذها أسراب عصافير وفراشات راحت تحلق حوله وهي تغني بمرح وسعادة.

*القصة الفائزة بالمركز الثاني

لجائزة القدس للقصة القصيرة

العدد 3079 - الأربعاء 09 فبراير 2011م الموافق 06 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً