العدد 2446 - الأحد 17 مايو 2009م الموافق 22 جمادى الأولى 1430هـ

الصحواتُ والغَفَوَات في العراق

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في البيروقراطية الإدارية للدولة شَبَهٌ بالطبيعة. فحين تتمكّن الجذور من الأعماق يُصبح القطع أو الخلع تصديا لواحدة من ظواهرها. وهو بالضبط ما يحكم التوازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية داخل الأنظمة.

في العراق تبدو المشكلة بهذه الهندسة. فالعلاقة المأزومة اليوم ما بين حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي وقوات الصحوات باتت تُنذر بتداعيات لن تُحمَد عقباها. التأزيم بدأ من عدم صرف المُرتّبات للصحوات، وإدماج منسبيها في الجيش والشرطة العراقيين، واستمر حتى وصل إلى غياب الثقة البينية واعتقال قيادات منها.

في أحوال الصحوات قضية مُركّبة. فهي أولا مجاميع بشرية مُسلّحة أقامها المُحتل الأميركي لمقاتلة تنظيم القاعدة في المناطق السُنّية بعد أن عَجِزَ عن التصدي لها طيلة أربعة أعوام. وقد أثبتت تلك القوات جدواها وبقوة.

ثانيا، فإن أفرداها ينتمون إلى عشائر عراقية أصيلة في المناطق التي تنتشر فيها الديمغرافيا السُنّية سواء في الأنبار أو ديالى أو صلاح الدين. وبالتالي فإن التعاطي معها هو تعاطٍ مع مُكوّن مذهبي رئيسي داخل المجتمع العراقي، سيشعر بأنه يُحجّم سياسيا من جديد.

وضمن هذا السياق فإن الصحوات (ولأنها اجترار طبيعي للعشائر العراقية)، تتماهي مع موضوع الانقياد العشائري بشكل أوّلي وغائر. وهو يلعب دورا بارزا في طريقة تعاطيها مع الأعمال الأمنية المنوطة بها أمام البيروقراطية التقليدية، التي قد تأتي في درجة لاحقة.

وليس أدلّ على ذلك هو تسجيل حالة انسحاب جماعي لصحوة الفضل في بغداد بعد اعتقال الجيش الأميركي والقوات العراقية لمسئول صحوة الفضل عادل المشهداني قبل أكثر من شهر ونصف، بسبب تُهم تزّعمه للجناح العسكري لحزب البعث.

ثالثا وهو الأهم، أن هذه القوات هي ضمن منظومة أمنية متوالية التنظيم والدفع، تربطها شبكة من المصالح والاستحقاقات يُشكّل المسّ بها مسّا مباشرا بالوضع الأمني والعسكري الهشّ في العاصمة بغداد وجوارها وأيضا المناطق الغربية، وخصوصا تلك التي شَهِدَت صراعا مذهبيا بعد تفجير المرقدين العسكريين في سامراء في فبراير/ شباط 2006.

وهو ما فسّرته تفجيرات شهري مارس/ آذار وإبريل/ نيسان المنصرفين والتي أوقعت في شهر إبريل وحده مئتين وتسعين قتيلا ومئات الجرحى، تركّز معظمها في مناطق كانت تضطلع بحمايتها الصحوات.

كما أن اهتراء العلاقة ما بين الحكومة والصحوات، وانعكاس ذلك على علاقاتها خارج الإطار والفهم الجديد لموازين القوى، قد مكّن تنظيم القاعدة من العودة مرة أخرى لشمال شرق بغداد وللضلوعية واللطيفية وأبوغريب وخان بني سعد والدورة بالقرب من عرب جبور. إنها أخبار غير سارّة بالمرة.

مشكلة أخرى تزيد الأمر تعقيدا، وهي أن دفوع تشكيل قوات الصحوة (100 ألف عنصر) كانت مسارا مزدوجا ما بين مغالبة الوضع الاجتماعي والسياسي الذي فرضته القاعدة على مناطقهم، والآخر هو إعادة جزء من الحقّ التنظيمي للسّنة العراقيين داخل الدولة وأجهزتها، وخصوصا أن معظم قوات الصحوة كانوا من منتسبي الجيش العراقي السابق الذي حلّه الحاكم المدني السابق بول بريمر.

وبالتالي فإن إحجام الحكومة العراقية عن دفع مُرتّبات قوات الصحوة وإدماجهم في الجيش وباقي الوزارات المدنية يعني إخلالا بأحد رُكني إرهاصات تشكيلها. وقد يدفع هذا الشيء لأن تغتنم القاعدة هذه الفجوة لتعيد ترميم وجودها في المناطق السُنّية وتخترق الصحوات والمجتمع العشائري عبر إيجاد الحاضنة المالية والشرعية البديلة.

الأخبار الواردة من العراق اليوم تُفيد ما يؤكّد على هذا التحليل. فالعديد من عناصر الصحوات تركوا نقاط التفتيش التي كانوا يتولّونها طيلة الفترة السابقة بسبب عدم قيام وزارة الداخلية صرف مرتباتهم (تتراوح ما بين 400 و 700 دولار، أي ثلاثين مليون دولار شهريا). وهو ما يعني أن إعادة تشكّلهم ضمن تنظيم القاعدة أو جماعات مسلّحة وارد وبقوة.

اليوم يُمكن أن يَقرأ العرب السُّنّة في العراق ما يجري بشأن الصحوات وكأنه مشروع سياسي يهدف إلى إكمال تطويقهم سياسيا بعد عملية الدستور، وبالتالي يُعاد إنتاج مأزومية الدولة والمجتمع من جديد والتي تمثّلت بأسوأ أحوالها في العامين 2006 - 2007 ليتكرّس التقابل من جديد وبصورة أشد.

فضَم عشرين ألفا من أفراد الصحوات (20 في المئة من مجمل القوات) في السلك العسكري بالتأكيد لن يُغيّر من خريطة الجيش العراقي الذي زاوَل عليه المحتل وكذا دول الإقليم عمليات غربلة منهجية وفنيّة وأيدلوجية، أنتجته بغير الصورة التي كان عليها أيام البعث، وبالتالي فلا خشية استراتيجية على ذلك التشذيب من ضمّ عشرين ألف عنصر يُمكن أن يذوبوا في التركيبة الحالية للجيش.

الآن ما يُمكن أن يُقال هو التالي: لقد عجز 140 ألف جندي أميركي و600 ألف عنصر أمني عراقي على القضاء على مناشط القاعدة في الفترة السابقة واستطاعت أن تقوم بذلك الصحوات العراقية في مناطق مُلتهبة وعصيّة على التطويع الأمني.

وفي تتمّة لذلك فإن الجميع يعلم أن عدد الكتائب العسكرية العراقية التي يُمكن التعويل عليها في ساحة المواجهة هي 17 كتيبة فقط من أصل 175 كتيبة بسبب ضعف العامل اللوجستي. (راجع تقرير البنتاغون في ذلك).

والجميع يعلم أيضا بأن وزارة الدفاع العراقية قد انخفضت موازناتها من 8.5 مليارات دولار إلى 4.5 مليارات دولار، وبالتالي فإن إبقاء المنظومة الأمنية والعسكرية السابقة والتي تعتمد على الصحوات في جزء منها مازالت دواعيها قائمة. بل إن المساس بها سيُشكّل انتكاسة لتمدّد الأمن الاجتماعي أفقيا.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 2446 - الأحد 17 مايو 2009م الموافق 22 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً