العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ

ديوكسين في البيض

عمَّت ألمانيا مؤخراً موجة ذعر امتدت الى دول أوروبية أخرى، عندما تبين أن كميات كبيرة من البيض ولحوم الدجاج ملوثة بالديوكسين السام الذي احتواه العلف في آلاف المزارع الألمانية. وقد سارعت الحكومة الألمانية والاتحاد الأوروبي الى اتخاذ تدابير لتشديد الضوابط والمعايير الخاصة بصناعة الأعلاف ولسد ثغرات في نظم المعاينة والسلامة. هذا المقال يضيء على هذه الفضيحة الغذائية، للفت الاهتمام الى تقصير السلطات المعنية في الدول العربية في الحرص على سلامة المواد الغذائية المنتجة والمصنعة محلياً أو المستوردة من الخارج.

هبطت مبيعات البيض والدجاج في ألمانيا بشكل حاد بعد إطلاق إنذار صحي في 3 يناير/ كانون الثاني 2011، عندما أُعلن أن علفاً ملوثاً بالديوكسين السام أطعم للدجاج. أغلقت السلطات نحو 4700 مزرعة، وانتشر مئات المفتشين لمعاينة جميع المزارع التي يشتبه بأنها استعملت ذاك العلف، وتم إعدام آلاف طيور الدجاج. ونصح المستهلكون بألا يشتروا إلا البيض واللحم العضويين ريثما تنتهي أعمال المعاينة.

موجة الذعر كلفت المزارعين الألمان نحو 50 مليون يورو في الأسبوع. ومازال التحقيق جارياً مع شركة «هارلس أند ينتش» للدهون الصناعية والأعلاف، التي وزعت أحماضاً دهنية صناعية مخصصة لانتاج الورق والوقود الحيوي على مصنِّعي الأعلاف الحيوانية.

الفضيحة أغضبت المستهلكين وأثارت حالات تأهب صحية دولية. وقامت تظاهرات شعبية حمل بعضها شعار «طفح الكيل، لا للهندسة الوراثية والمصانع الحيوانية». وكانت الغضبة عارمة بشكل خاص لأن السلطات علمت بالتلوث قبل أشهر من إعلانه. وكانت اختبارات أجريت في مارس/ آذار 2010 أظهرت مستويات عاليـة من الديوكسين تتخطى الحدود المسموحة في أحماض دهنية أنتجتها تلك الشركة للاستعمال في تصنيع علف حيواني. وحظرت روسيا مستوردات لحوم الدجاج الألمانية، وفرضت الصين وكوريا الجنوبية قيوداً عليها، وعبرت بولندا وتشيكيا وبلدان أخرى عن قلقها بشأن مستورداتها الغذائية من ألمانيا.

وسارعت الحكومة الألمانية الى اتخاذ سلسلة تدابير عاجلة لتشديد الضوابط والمعايير الخاصة بصناعة الأعلاف ولسد الثغرات في نظام المعاينة والسلامة. فأقرت قانوناً جديداً يلقي مسئولية إضافية على المختبرات الخاصة ويلزمها إبلاغ السلطات بتحاليل مشتبه بها لمواد غذائية أو أعلاف حيوانية. كما فرضت على الشركات المنتجة للأعلاف والمواد الغذائية أن تعلم السلطات بأي كميات من الديوكسين أو مواد خطرة أخرى تكتشف في منتجاتها. وهذا يتيح استحداث نظام للانذار المبكر بالتلوث. ومن التدابير التي يعتزم اتخاذها نظام ترخيص جديد لمصانع الزيوت والدهون التي تدخل في انتاج الأعلاف الحيوانية، وفصل إنتاج الدهون والزيوت المعدة للاستعمالات الصناعية عن تلك المعدة لاستعمالات العلف الحيواني. ويدرس الاتحاد الأوروبي حالياً سياسة لدعم أسعار بعض مستلزمات المزارع، من أجل تشجيع نظم زراعية محلية مستدامة ولا تعتمد على الشبكات التجارية المعقدة.


كيف حدث ذلك؟

عندما نقرأ كلمة «بيض»، قد نتصور عمالاً في مزارع صغيرة نظيفة تنتج البيض الطازج من دجاجات سعيدة، وموظفين كفوئين في مصانع تفقس هذا البيض بعناية لمعالجته وتعليبه وتصنيعه بحسب متطلبات المنتجات الغذائية.

لكننا اليوم نسمع عن مادة تستخدمها الصناعات الغذائية منذ بضع سنوات وتدعى «البيض السائل المعقم». وما يحدث في الواقع هو أن البيض يأتي غالباً من دجاج يربى في أقفاص داخل مزارع صناعية، ويباع الى شركة يتولى مصنعها نزع قشوره وتعريضه لحرارة عالية جداً، ما يقتل أي بكتيريا قد تسمم الغذاء الذي يدخل فيه. لكن الحرارة تتلف أيضاً الفيتامينات التي تجعل البيض مغذياً. والسبب الحقيقي لهذه المعالجة هو أن البيض السائل، بعد تعقيمه، يتحول الى منتج يدوم وقتاً طويلاً، مثل الحليب المعقم، بحيث يمكن توضيبه وتخزينه في درجة حرارة الغرفة لاستعماله بعد أشهر أو حتى سنوات. وهو يستخدم في المطاعم ومطابخ تعهد مآكل الحفلات. ويلجأ المصنعون في الدول الغربية بشكل متزايد الى استعمال هذا المكوِّن الغذائي الذي فقد طبيعته الخاصة، بسبب صرامة الأنظمة التي تحكم استعمال البيض النيء الطازج. هكذا يدخل في تشكيلة من السلع الغذائية، مثل الكعك والحلوى وفطائر الـ «كيش» والمايونيز وغيرها.

حادثة تلوث البيض الألماني التي ضجت بها أوروبا تبين كيف أصبحت المكونات الشائعة لصنع الغذاء سلعاً دولية، تشترى وتباع في سوق عالمية. البيض الملوث بالديوكسين أتى من ألمانيا، حيث أطعم الدجاج علفاً دخلت في تصنيعه دهون ملوثة بالديوكسين أعدت أصلاً لصناعة الورق أو الوقود الحيوي، لكنها وزعت على مصانع لإنتاج العلف. ومن ألمانيا أرسل البيض الى هولندا، قاطعاً مئات الكيلومترات، لمعالجته وتحويله الى بيض سائل معقّم. ثم نقل بحراً وبراً الى شركات في بلدان مختلفة استخدمته في إنتاج مواد غذائية تم توزيعها على المتاجر.

والبيض الملوث بالديوكسين لا يختلف عن أحداث تلوث غذائي سابقة، مثل المضاد الحيوي نيتروفوران في الروبيان العام 2002، والصبغة الصناعية Sudan 1 التي تستعمل في المذيبات ومركبات صقل الأرضيات والتي أخذت طريقها العام 2003 الى مواد غذائية مثل صلصة الباستا والوجبات الجاهزة. العنصر المشترك في هذه كلها احتواؤها على مكونات مبهمة استعملت بشكل غير قانوني في بلدان تبعد آلاف الكيلومترات عن البلدان التي استهلكت فيها، وهي تعرف جميعاً بأنها مسرطنات.

وبفضل السلسلة الغذائية المعولمة بشكل متزايد، وبما أن السلطات قد تحتاج الى أسابيع أو شهور لتحديد مصدر المشكلة والأغذية المتأثرة بها، فإن المكوِّن الخطير قد يلوث آلاف المنتجات في المتاجر خلال أيام. وقد نأكل هذه المنتجات قبل أن تتنبه السلطات المعنية للمشكلة.

لكن سلسلة الامدادات الغذائية الطويلة والمعقدة ليست إلا جزءاً من المشكلة. فكثيراً ما تعمد مزارع المواشي والدواجن الصناعية الكبيرة الى استخدام أرخص علف حيواني ممكن لتخفيض نفقاتها الانتاجية، علماً أن العلف يشكل أكثر من 50 في المئة من كلفة الإنتاج. ولا ننسَ أن مرض جنون البقر (BSE) الذي تسبب بأكبر حالة ذعر صحي غذائي في تسعينات القرن العشرين نشأ من علف حيواني ملوث، كذلك تفشي الحمى القلاعية في بريطانيا العام 2001، وموجتا التسمم الغذائي بالديوكسين في بلجيكا العام 1999 وفي ايرلندا العام 2008.

في موجة الذعر الأخيرة التي شهدتها ألمانيا، تبين أن الدهن الصناعي الذي أضيف كمادة مكملة الى العلف يحتوي على مستويات من الديوكسين السام والمسرطن تفوق 5 مرات أو أكثر المستويات المأمونة بحسب المعايير الأوروبية. والديوكسين منتج ثانوي للصناعات الكيميائية، كما ينجم عن حرق النفايات وعمليات أخرى. وهو يتراكم في الطبيعة والأنسجة الدهنية في أجسامنا، خصوصاً من خلال استهلاك أغذية مصدرها حيوانات ونباتات تراكمت فيها مستويات منه. وعلى رغم أن أثر الديوكسين على صحتنا ليس فورياً، فإن التعرض الطويل لمستويات عالية منه قد يسبب أمراضاً سرطانية ويضر بجهازي المناعة والتناسل.

في بريطانيا، التي استوردت كمية كبيرة من البيض الملوث بالديوكسين، طمأنت وكالة مقاييس الغذاء المواطنين أن الخطر الناجم عن تناوله منخفض جداً، لأن البيض الألماني مزج ببيض «قانوني» في هولندا قبل شحنه الى بريطانيا. ولكن حتى الضوابط المشددة التي تتخذها الحكومة الألمانية قد لا تحول دون حدوث حالات ذعر صحية في المستقبل. وقد تأتي المصيبة الغذائية من مصدر آخر أو من بلد آخر. في إيطاليا مثلاً، علت الصرخة العام 2008 من مستويات عالية للديوكسين في حليب الجواميس الذي يصنع منه جبن الموتزاريلا، وألغيت طلبات التصدير، وقيل إن محارق النفايات حول مدينة نابولي ربما أدت الى ارتفاع مستويات الديوكسينات المسرطنة في المروج التي ترعى فيها القطعان.


سلامة الغذاء في المنطقة العربية

فضيحة الديوكسين في ألمانيا مازالت قيد التحقيق، وسوف تعرف تفاصيلها وينال المتورطون فيها قصاصهم. ولكن كم من الفضائح الغذائية تحصل في بلداننا العربية ويفلت صانعوها من العقاب؟ والى أي مدى يتم فحص سلامة الأعلاف والمواد الغذائية من الديوكسينات وبقايا المبيدات وغيرها من السموم... والمنتجات المعدلة وراثياً التي مازال الجدل حامياً بشأن تأثيراتها الصحية؟

جاء في تقرير «البيئة العربية: تحديات المستقبل»، الصادر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية العام 2008، أنه باستثناء منتجات قليلة خاصة بالرعاية الصحية، فإن أياً من البلدان العربية لا ينتج حالياً منتجات لها علاقة بالتكنولوجيا الحيوية. لكن هناك 14 بلداً عربياً هي أطراف في بروتوكول قرطاجنة للسلامة الأحيائية الذي ينظم استيراد وتصدير الكائنات المعدلة وراثياً(GMOs). والمشكلة الرئيسية حالياً هي تنفيذ البروتوكول بشكل غير واف، مما يؤدي الى حالات نجد فيها بعض السلع القائمة على منتجات معدلة وراثياً، مثل الذرة والرز الطويل وفول الصويا وزيت الطهو، تُستورد وتتوافر في الأسواق العربية من دون الاعلان عنها أو وضع ملصقات عليها تبين محتوياتها. والنقطة الأساسية في المشكلة هي انعدام الآليات التنظيمية والتطبيقية والبنى التشريعية والادارية والخبرة التقنية. لذلك يجب توجيه المزيد من الموارد الى مجالات تطوير التكنولوجيا الحيوية، لتتمكّن البلدان العربية من اتخاذ قرارات معززة بالمعلومات حول المنتجات التي تستوردها.

المبيدات والأسمدة تُستعمل على نطاق واسع في المنطقة، ويُساء استعمالها في كثير من الحالات. وتسجل في دول عربية بعض أعلى كميات الأسمدة لكل هكتار في العالم. ويثير الاستعمال المكثف للمبيدات والأسمدة مخاوف حول سلامة الغذاء كقضية صحية عمومية. وتفتقر معظم البلدان العربية الى فرض أنظمة وضوابط على بيع المبيدات وتداولها واستعمالها. ولا تتوافر في معظمها مختبرات موثوقة لتحليل مخلفات المبيدات في المنتجات الزراعية المعروضة في الأسواق، أو لفحص ما يمكن أن تحويه المواد الغذائية أو المصنَّعة محلياً من المواد السامة أو المسببة للسرطان، ولا تبذل جهود كافية لتحليلها حيث تتوافر المختبرات.

لذلك فإن الالتزامات التشريعية والمؤسساتية ضرورية في هذا الصدد. ويجب معالجة هذه القضايا على المستوى الاقليمي. فلدى كثير من بلدان المنطقة الموارد والقدرات اللازمة لأداء أفضل، والمفقود هو وعي واضح للموضوع. وعلى الحكومات العربية أن تنظر في ادخال اصلاحات مؤسساتية وإدارية وتدعم انشاء مختبرات متطورة لضمان سلامة الغذاء الذي يتم انتاجـه وتصنيعه واستيراده.

العدد 3102 - الجمعة 04 مارس 2011م الموافق 29 ربيع الاول 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً