العدد 1235 - الأحد 22 يناير 2006م الموافق 22 ذي الحجة 1426هـ

التعايش... والكيان اللبناني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الدعوات التي أطلقت حديثاً للحوار اللبناني ­ اللبناني تبدو لكل المراقبين هي الملاذ العاقل لكل الفرقاء. فهذا البلد الصغير لا يحتمل التطرف والمبالغة في الاستقطاب السياسي بسبب تركيبته الطائفية والمذهبية وتوزع قواه الفاعلة على مناطق جغرافية تتركز فيها هذه الطائفة أو ذاك المذهب. وهذا التوزع المناطقي للطوائف والمذاهب الذي فرضته ظروف الاجتماع الأهلي وعززته الحروب المحلية والإقليمية التي اندلعت منذ سبعينات القرن الماضي انتج سلسلة توازنات من الصعب كسرها من دون اقتتال. وبسبب هذا التكوين الأهلي لعلاقات الاجتماع في لبنان تزداد الحاجة إلى الحوار لأنه السبيل المعقول لمنع التشنج والتدهور والحد من التدخلات الخارجية في شئونه. الاستقطاب الأهلي في لبنان مسألة واقعية ومن الصعب تعديلها سياسياً من دون حوار وتفاهمات على نقاط مصيرية وحساسة تقوم على احترام خصوصيات كل فريق. فكل جماعة أهلية تمتاز بخصوصية محلية متلونة سياسياً بوجهة نظر طائفية ومذهبية. والسياسة العامة في هذا البلد الصغير هي نتاج تمازج تلك الألوان في إطار مصلحة مشتركة. ولذلك لابد أن يقوم الحوار بين الأطراف للاتفاق على الألوان التي ترسم الهوية الجامعة والتفاهم على استبعاد تلك الألوان التي تفرق بين الجماعات. كل المؤرخين اللبنانيين من يوسف السودا وفيليب حتي إلى جواد بولس وميشال شيحا وكمال صليبي تحدثوا عن التنوع وفلسفوه في إطار قراءات متعددة لتاريخ هذا البلد الصغير. وكل هؤلاء توافقوا على ابتكار مفردات خاصة للدلالة على خصوصيات هذا البلد. فالبعض قال إنه «جبل». والبعض إنه «بحر». والبعض إنه «ملجأ». والبعض قال إنه «عقد». وكل مفردة كان لها معنى محدد، يشير إلى تلك الخواص التي يقال إنها أسهمت في تأسيس الصيغة اللبنانية (الميثاق والدستور). مثلاً «الجبل» كان يعني لبعض المؤرخين الاختباء والممانعة والمقاومة في الحصن المنيع. و«البحر» كان يعني للبعض الآخر المغامرة والانفتاح والتسامح والسفر والاتصال بالغرب. و«الملجأ» فسره البعض بأنه الملاذ الآمن للاقليات الخائفة من حكم الأكثريات. وقال بعض المؤرخين عن «العقد» أنه يشير إلى التعاقد الاجتماعي بين الطوائف المختلفة اللاجئة أو الهاربة من الصحراء. كل هذه المفردات، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، شكلت في النهاية مداخل بحثية للمؤرخين اللبنانيين للدلالة على خصوصيات اجتمعت لأسباب مختلفة (خوفاً أو هرباً) في هذه البوتقة الجغرافية التي تولدت منها فكرة الكيان السياسي أو البيت المشترك أو التعايش المشترك لمختلف طوائفه ومذاهبه. لهذه الأسباب المختلفة (الجبل، الملجأ والبحر) لابد من الحوار بين اللبنانيين لحماية الكيان/ البيت من الانهيار والتفكك في حال استمرت لغة التطرف والتشنج والتعصب. ومثل هذا الكيان/ البيت يقوم على توازن العقد، إذ لا غالب فيه ولا مغلوب. والمنتصر فيه هو في النهاية مهزوم. فكرة التعايش شكلت القاعدة السياسية للصيغة اللبنانية. وهي كلمة بسيطة ومتواضعة، ولكنها في الواقع تعكس ذاك التنافر للحفاظ على تجانس الكيان واحترام تنوع طوائفه ومذاهبه. فالتعايش من جهة، لا يعني وحدة وليس دعوة للاندماج والذوبان في عناصر واحدة، ولكن يعني من جهة أخرى، التفاهم سلماً على بقاء كل حال على حاله من دون اقتتال أو مواجهات أو تسلط أو هيمنة. كلمة تعايش تعني الاقرار بالأمر كما هو وعدم محاولة المساس بتوازنات الكيان حتى لا ينهدم البيت على كل الاقليات (الكبيرة والصغيرة) وتذهب كل فرقة باتجاه معاكس للأخرى. الحوار ليس حلاً لكل المشكلات، ولكنه المدخل الصحيح لإعادة ترميم جسور الثقة بين هيئات انتخبت في الدورة البرلمانية الأخيرة. وهذه الهيئات تمثل في نهاية المطاف وبهذه الحدود النسبية أو تلك هذا التنوع المنتشر جغرافياً على مناطق تقطنها هذه الطائفة أو ذاك المذهب. هذا هو واقع لبنان في النهاية، وكل محاولة لتغييره جذرياً تعني بسوء أو حسن نية دفع البلد الصغير نحو مواجهات داخلية تقضي على تلك التوازنات وتقوض التعايش وتهدد الكيان. وبين القبول بالواقع ورفضه هناك مساحة للتفاهم الذي لا يقوم من دون تنازلات صعبة. وهذا الأمر يقتضي الحوار وإلا هناك كارثة تنتظر الجميع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1235 - الأحد 22 يناير 2006م الموافق 22 ذي الحجة 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً