العدد 3151 - السبت 23 أبريل 2011م الموافق 20 جمادى الأولى 1432هـ

آليات الكتابة لـ «أمبرتو إيكو» (7)

حاشية على «اسم الوردة»

ترجمة وتقديم - سعيد بنكراد 

23 أبريل 2011

ولقد كانت هناك غاية أخرى من المقاطع التعليمية الطويلة. لقد أشار علي أصدقائي الناشرون، بعد اطلاعهم على المخطوط، بتقليص المئة صفحة الأولى، فقد بدت لهم أنها أخاذة ومتعبة. ورفضت ذلك بدون تردد. ولقد كانت حجتي أن من يرغب في الدخول إلى الدير والمكوث به سبعة أيام، عليه أن يتحمل هذا الإيقاع. وإذا لم يكن ذلك في استطاعته، فإنه لن يتمكن من قراءة الكتاب في كليته. والحاصل أن وظيفة المئة صفحة الأولى كانت امتحانا واستئناسا. ولا أبالي بالذين لا يحبون ذلك، إنهم سيقفون عند بداية الهضبة.

إن الدخول إلى رواية شبيه برحلة إلى الجبل. يجب اختيار نفس، واختيار إيقاع للسير، وإلا فإننا سنتوقف في البداية. وهذا ما يحدث في الشعر، والله وحده يعلم كم هي مملة تلك القصائد التي يتلوها ممثلون لا يجيدون قراءة الشعر، فيلحنون في القراءة، ويتصرفون كما لو أنهم يلقون نثرا، إنهم ينساقون وراء المضمون وينسون الإيقاع. فلقراءة قصيدة من نوع hendécasyllabes أو tercet(19)يجب اتباع الإيقاع الغنائي الذي كان يرومه الشاعر. فمن الأفضل أن نتلو شعر دانتي كما لو أن الأمر يتعلق بقوافي عدِّية طفولتنا ( 20) على أن نلهث وراء المعنى.

أما في السردية، فإن النفس لا يعود إلى الجمل، بل مرتبط بوحدات كبرى، أي بمقاطع حدثية. فهناك روايات تتنفس مثل الغزلان وأخرى مثل حوت أو فيل. إن التناغم لا يكمن في طول النفس بل في انتظامه. وإذا حدث أن انقطع النفس، في لحظة ما، وتوقف فصل (أو مقطع) قبل النهاية التامة للنفس، فإن هذا سيلعب دورا مهما في الاقتصاد العام للمحكي. فهو قد يشكل نقطة قطيعة، أو قلبا مفاجئا للأحداث. وهذا ما يقوم به المؤلفون، الكبار منهم على الأقل: فليس لجملة مثل: «لقد ردت المسكينة» نقطة إلى السطر، نفس إيقاع: «وداعا أيتها الجبال»، فعندما يحدث هذا، فإن الأمر يكون كما لو أن جبال لومباردي قد غطتها الدماء. (*)

إن الرواية العظيمة هي تلك التي يعرف مؤلفها متى يسرع ومتى يتوقف، وكيف يقدر درجة الوقفات أو الإسراع ضمن إيقاع أصلي ثابت. ففي الموسيقى يمكن أن نعزف «ريباتو» (21) دون المغالاة في ذلك، وإلا كنا أمام حالة هؤلاء العازفين السيئين الذين يعتقدون أنه من أجل عزف مقاطع من شوبان يكفي أن نوسع من دائرة الريباتو.

لا أشرح هنا الكيفية التي حُلت بها هذه المشاكل، بل أحاول أن أبين كيف أني لم أطرحها. وسأكون كاذبا إذا قلت إنني طرحت هذه المشاكل بشكل واع. هناك روح للتلحين تفكر من خلال إيقاعات الأصابع التي تضرب على ملمس الآلة.

وأود أن أقدم هنا مثالا خاصا بالفكرة القائلة بأن السرد هو تفكير بالأصابع. من الواضح أن المشهد الخاص بالمضاجعة داخل المطبخ مبني في كليته انطلاقا من الاستشهاد بنصوص دينية من نشيد الأناشيد والقديس برنار وجان دو فكامب، مرورا بالقديسة هيلدوغارد دو بنغام. من لا يعرف الممارسة الصوفية القروسطية وله فقط حاسة سمعية بسيطة يدرك ذلك. ولكن إذا طلب مني اليوم أن أحدد صاحب هذه الاستشهادات، وأين تنتهي الأولى وتبدأ الثانية، فإنني لا أستطيع فعل ذلك.

لقد كان في حوزتي، في الواقع، عدد هائل من الجذاذات المليئة بكل أنواع النصوص، وأحيانا صفحات من كتب ونسخ، أكثر بكثير من تلك التي استعملت. ولكنني عندما كتبت المشهد، فعلت ذلك دفعة واحدة (لم أقم بتهذيبه إلا لاحقا، كما لو أنني أضفت إليه مادة الفيرني لكي أخلق نوعا من الانسجام بين العناصر الموصلة).

وبناء عليه، فإنني كنت أكتب وبجانبي نصوص متناثرة، ألقي نظرة تارة على هذه، وتارة على تلك، ناقلا مقطعا لكي أصله بعد ذلك بمقطع آخر. إنه الفصل الذي كتبته بسرعة فائقة. لقد أدركت بعد ذلك أنني أحاول أن أتبع بأصابعي إيقاع المضاجعة ولذلك لم يكن بإمكاني التوقف لاختيار الاستشهاد. فما كان يتحكم في صحة الاستشهاد هو الإيقاع الذي كنت أسرب عبره الاستشهاد، وأستبعد ذلك الذي قد يؤدي إلى تكسير إيقاع أصابعي.

لا يمكنني القول إن مدة كتابة الحدث هي نفسها المدة التي يستغرقها الحدث (حتى وإن كانت هناك مضاجعة بطيئة)، ولكنني حاولت أن أقلص، إلى أبعد حد ممكن، المسافة الفاصلة بين زمن المضاجعة وزمن الكتابة. وأعني بالكتابة الرقانة لا الكتابة بالمفهوم البارثي. إني أتحدث عن الكتابة بالمفهوم المادي، الفيزيقي. وأتحدث عن إيقاع الجسد وليس إيقاع الانفعالات. إن الانفعال كان موجودا في البداية، في القرار الذي اتخذته القاضي بالمزج بين النشوة الصوفية والنشوة الإيروسية، في اللحظة التي قرأت فيها واخترت النصوص التي سأستعملها. وبعد ذلك تلاشت كل الانفعالات. لقد كان أدزو هو الذي يمارس الجنس، وليس أنا، أما أنا فقد كان علي فقط أن أترجم انفعالاته إلى لعبة لليدين والعينين، كما لو أنني كنت أريد أن أحكي قصة حب من خلال الضرب على طبل.

-9 بناء القارئ

من أجل من هذا الإيقاع وهذا النفس وهذه المعاناة؟ من أجلي أنا؟ بطبيعة الحال لا. إنها من أجل القارئ. فنحن نفكر في قارئ ما أثناء الكتابة. تماما كما هو حال الرسام الذي يفكر في المشاهد أثناء رسمه للوحة. فبعد لطخة من لطخات الفرشاة يتراجع إلى الخلف خطوتين أو ثلاث خطوات ليدرس الوقع. إنه ينظر إلى اللوحة كما يجب أن ينظر إليها مشاهد ما، ضمن شروط إضاءة مناسبة ويتأملها وهي معلقة على الحائط.

فعندما يتم العمل، يبدأ حوار بين النص وقارئه (المؤلف مستبعد من هذا الحوار). أما أثناء صياغة هذا العمل فيكون هناك حوار مزدوج: حوار بين هذا النص وبين جميع النصوص السابقة (إننا لا نكتب كتبا إلا انطلاقا من كتب أخرى وحولها)، وآخر بين المؤلف وقارئه النموذجي. ولقد نظَّرت لهذه المسألة في Lector in fabula وقبل ذلك في L»oeuvre ouverte. ولست أنا من اخترع هذا القارئ.

قد يفكر المؤلف، وهو يكتب، في جمهور فعلي، كما كان يفعل ذلك مؤسسو الرواية المعاصرة رتشاردسون فيلدينغ أو دوفو، فهؤلاء كانوا يكتبون للباعة الذين كانت تقصدهم نساؤهم للتسوق. وجويس نفسه كان يكتب للجمهور، وهو الذي كان يفكر في قارئ مثالي مصاب بأرق مثالي. وفي الحالتين معا، سواء كتبنا ونحن نفكر في جمهور يوجد على عتبة الباب ومستعد للأداء، أو نكتب لقارئ ينتمي إلى المستقبل، فإن الكتابة تعني بناء قارئ نموذجي من خلال النص.

فماذا يعني التفكير في قارئ نموذجي قادر على تجاوز العوائق التي تخلقها المئة صفحة الأولى؟ إنه يعني كتابة مئة صفحة بهدف بناء قارئ مناسب للصفحات التي ستأتي بعد ذلك

العدد 3151 - السبت 23 أبريل 2011م الموافق 20 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً