العدد 3151 - السبت 23 أبريل 2011م الموافق 20 جمادى الأولى 1432هـ

دينامكية المجتمعات المتعددة بين قيم «الولاء - البراء» وعملية «البناء - الهدم»

حال المسلمين الهولنديين كأنموذج بحثي

يتخيل الإعلام الأوروبي التواجد الاجتماعي لأتباع الديانة الإسلامية في أوروبا كتواجد متقوقع، ساكن ويقع مجمل نشاطه الثقافي خارج وتيرة الانتماء والولاء الأوروبي. حديث الولاء أو الجموح ساهم في وضع المعرفة الأوروبية في أسْر مخيلة تفهم المسلم و الإسلام من خلال أجنده سياسية وأيديولوجية تخدم مصلحة البلد الأوروبي هذا أو الحزب «الفلاني» هذاك. في أتون ديناميكية الانتماء من عدمه نجد المجتمعات الأوروبية تخوض علاقات مأزومة ليس فقط بين الأوروبيين والمسلمين المتهمين بعدم انتمائهم إلى «القيم» الأوروبية، بل وبين تلك المراكز الثقافية الأوروبية المنفتحة على المسلمين وبين تلك المراكز الأوروبية المتريّبة منهم. عزيزي القارئ سنأخذ حالة المسلمين الهولنديين كأنموذج بحثي، ونتفحص حياتهم من خلال الكل المركب للعلاقات الثقافية والاجتماعية، دون إغفال لتنوع المجتمع الهولندي.

الإثـنـُوتـَمَحْوَرّية الهولندية: هولندا هذا البلد الجميل بتنوع أطيافه وثقافاته بات يتشنج من تعددياته. هولندا، وإلى وقت قريب، كانت مضرب المثال لمجتمع ينتهج مشروع التـّعَدُدُ-ثـَقافي الناجح. فسياسات الحكومات التي توالت على إدارة الشئون الهولندية شجعت في القرن العشرين على حماية هويات وخصوصيات الأقليات المقيمة في هولندا. على سبيل المثال شيدت المدارس الخاصة لتعليم أبناء المسلمين في هولندا، بنت منازل خاصة بهم، بثت وموّلت قنوات إعلامية خاصة بالمسلمين ونظمت برامج محلية لليتثاقفوا مع بقية أفراد المجتمع. ولكن الكتاب الذي بين أيدينا يقدم عرضا نقديا في فهم التمحور الهولندي داخل فكر الجماعات المنعزلة (الإثنـُوتـَمَحْوَرّية - ethnocentrism) والمستغرقة في تأملات قضية «الأصالة» الهولندية وربطها سببيـّاً في تبرير تدهور منهج التـّعَدُد- ُُثـَقافيّة في هولندا.

إنتاج الكُرْه وممارسة الاغتيال: علينا تحليل الأدوات التي تـُوظـّف لرسم المشهد الهولندي الراهن. فغالبا ما ينتج الإعلام سلوكيات التباغض والتنافر وقيم الكره. فالإعلام يمارس عملية توظيف تشنجات وممارسات أفراد من ذوي الأصول العربية غير المسئولة والخارجة على أطر القانون ومن ثم تنميطها فإسقاطها مباشرة فوق رأس أتباع الثقافة العربية والإسلامية. وتتحول القضية من كونها حدث يقاضي جرم أرتكبه فرد إلى محاسبة المسلمين أجمع. فأحدهم قتل «بيم فورتين» السياسي الهولندي الذي نال صيت عاليا بسبب عدائه للمسلمين في مايو من عام 2002. كما أطلق «محمد بيوري»، هولندي من أصل مغربي، الرصاص على «ثيو فان غوخ» وهو مخرج سينمائي هولندي شتم الإسلام وناصر السياسيين المناهضين للإسلام أمثال «بيم فورتين» كما أخرج فيلم قصير أثار كثيرا من الجدل، وتوفى على الفور في عام 2004. أنها أمور شوهت الصورة المثالية لهولندا وكشفت عن تأزّمات عميقة متوغلة في المجتمع الهولندي وعن حجم الصراع ما بين مراكزه الفكرية التصالحية والأصولية.

من هو مـنّـا ومن هو ليس مـنّـا: يشير الباحث بول سندرمان (1) و لوك هغندورن (2) في كتابيهما (3) إلى وجود خطاب في هولندا يثير في ذهن متلقيه أن المجتمع الهولندي في محنة. لماذا؟ لأنه يخوض واقع تـّعَدُدُ-ثـَقافي (Multiculturalism) ويصف واقعه بأنه لا يعزز تثاقف مكوناته بل يساهم في تشنج علاقاته، ويبرر ذلك بعدم تلاءم ثقافات المهاجرين المسلمين معه. وبدأ الخطاب ينعت المهاجرين ب «الغرباء» ويشير بأصابعه إليهم قائلا: «أنتم لستم منا». ولكن يصر كل من بول و لوك على أن أوروبا، التي تنتمي إليها هولندا، قارة تحتضن تنوع ثقافي، إثني، لغوي، تاريخي وجغرافي هائل. وعند إنتاج المعرفة حول المهاجرين المسلمين يقرر إعلام المراكز الأوروبية المتريّبة من الإسلام أن يثير معاني «الـلآنـقـاء» الدخيلة مع الإسلام. فعند ورود أي خبر إعلامي عن مسلم أوروبي يستـّحْضر الهولندي (المستهلك لهذا الإعلام) ضمير الهوية المتكلم «أنا» المتشبعة بأدردلين الهوية المنحدرة من أصالة خالصة كاملة. في سياق نشوة الأصالة توصف القارة، الخصبة بتبَايناتها الثقافية، بـ أنها قارة ذات هوية معرفية ثقافية ثابتة متماسكة ككتلة صماء. وللتأكيد على هذا المعنى يستخدم أصحاب هذا الخطاب ضمير الجمع الحاضر «نحن» لوصف المشترك لهذا النقاء الأوروبي المتخيل. وعندما تتطرق المراكز الأوروبية المتريّبة من المسلمين إلى الحديث عن المسلم سنجد أنه هو الآخر يـُنـْعت بانتماءه إلى كتلة معرفية غير متحركة وثابتة. وعليه يسهل إحالة كل فرد مسلم إلى خانة بعيدة وغير متصلة بهم ألا وهي ضمير الجمع الغائب والغير حاضر «هم». هكذا يمارس إعلام المراكز الأوروبية المتريّبة عملية برمجة العقول وعلى ترويض مستهلكيه على تقبل نهج الاختزال. فتختزل أوروبا بملايينها البشرية وتنوعاتها المعرفية إلى لفظة «نحن»، ويتحول بلايين المسلمين بكل مشاربهم إلى لفظة «هم».

آفة الخلط بين القضايا الحقيقية والاعتبارية: يقدّر كل من بول و لوك بأن نصف الجمهور الهولندي يحمل مشاعر غير متعاطفة اتجاه الأقلية المسلمة، سواء أكانوا من أصل مغاربي أم تركي فالأمر هنا سيـّان. ويقولان أن الصورة الحالية لهولندا المتسامحة لا تعد أكثر من نجاح تسويقي تمكن من إشهار هولندا إعلاميا بصورة البلد المتسامح. أن العداء والتحامل نهج يمارسه «الفاشلون» من المجتمع الهولندي لأنهم يشعرون بالتهديد من قبل الوافدين. فبحساب هؤلاء الفاشلين كل وافد يهدد! لماذا؟ لأنه سيشغل الوظائف التي كان سيعمل بها الهولندي. أيضا فإن الوافد يحتاج إلى سكن مما سيتسبب برفع أسعار الشقق والبيوت مما يزعج الهولنديين.

الإثنـُوتـَمَحْوَرّية الهولندية أصيبت بداء الوهم: يرى بول و لوك أن فرضية قطع الأرزاق غير كافية لتبرير سلوكيات الهولنديين العدائية. بل لا بد من رؤية الأحداث من خلال نظرية الأزمات. ليس كأزمة وقعت أو ستقع بل كأزمة متخيلة غير موجودة. في هذا الإطار فإننا نطرح طرحا يقول أن الإثنـُوتـَمَحْوَرّية الهولندية أصيبت بداء الوهم وأنها أسيرة الحكم على الآخر بما ليس هو فيه. الباحثان يذكران أن الإثنـُوتـَمَحْوَرّية تغذي سلوكيات التحامل على المسلمين مما يدعو إلى القلق لأنه يتعارض مع قيم الديمقراطية الليبرالية. ويحذرا من عملية توغل التحامل الهولندي الذي بدأ يجهر بخطاب الإجحاف والظلم ضد الآخر. وهو أمر لو رضت به القوى السياسية الهولندية سيقود إلى انتهاك لحقوق الأقليات في مجال المساواة في فرص العمل وتوفير الحياة الكريمة لهم ومساواة في الحقوق العامة.

ليس كل الهولنديين سواء: يتراجع كل من بول و لوك بعض الشيء عن التعميم عندما يبينا أن هناك من بين الهولنديين من هم واثقين من أن المشكلة ليست مع الإسلام والمسلمين بل مع سلوكيات المسلمين غير المنصفة والمجحفة مع المرأة.

حتمية بنيوية: تعاني أطروحات بول سندرمان و لوك هغندورن من الاستسلام للبنيوية الديسوسورية. البنيوية الديسوسورية تفترض أن أي اتصال بين طرفين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين لن يسعى إلى اكتشاف الآخر. بل يسعى إلى تأكيد الصورة النمطية التي يحملها كل فريق عن الآخر. فلو كانت الثقافة المحلية الهولندية ذات طبع عدائي اتجاه المسلمين، على سبيل المثال، فعند لقاء الهولندي مع المسلم سيكون لقاء لا يسعى إلى اكتشاف حقيقة سِلم وتحضر الآخر بل سيسعى إلى تأكيد الصورة النمطية التي يحملها من عداء للآخر. كما غفل كل من بول و لوك تفحص خصوصية نقطة التبدل والانتقال التي تمر بهما كل المجتمعات ونخص هنا بين الهولنديين والمسلمين. فلم يلتفتا إلى البحث في فرضية شروع الهولنديين والمسلمين في عملية الإمتزاج بينهما. بمعنى آخر إن حدة الرفض المتصاعدة هذه لا تعدو من كونها سوى الرمق الأخير للرفض ولا تعدو من كونها بداية أولية لعملية الامتزاج والتقبل ولكن على الطريقة الهولندية. كما يميل كل من بول و لوك إلى شيء من التعميم، فلو عملا على تفكيك الجماعات الهولندية والجماعات الإسلامية، ليس بناء على محب ومبغض للآخر بل على أساس: تنوع، تعدد، تسامح، تحاور، تقارب، اندماج و اندغام، مع توضيح الظروف المنتجة لكل مرحلة ثقافية، مع رصد للعوامل الناقلة للفرد من خانة ثقافية إلى أخرى عندها يرتفع رصيد المعلومات ويتمكنا من إثراء مفاهيم المتلقي حول هذه الظاهرة.

تصدعات عميقة بلا معالجة: الحديث عن هولندا يميط اللثام عن تصدعات عميقة متفشية عند غالبية المهاجرين والهولنديين. تصدعات تركتها السلطات الهولندية دون علاج. فلا يوجد في هولندا أي برنامج يعمل على إعادة برمجه الإثنـُوتـَمَحْوَرّية المحلية لتكون هي المصدر المدافع عن مبادئ الديمقراطية والعدالة والمساواة. هناك إهمال، صادر في أفضل الأحوال عن غير إلمام، بالمؤسسات الثقافية الغير ملموسة (غير مادية) والمنتجة للبغض المجتمعي. فالأمثلة الشعبية المتداولة، النكات المحلية، الحِكم الشعبية، قصص الأطفال الشفهية، الأفلام، التعليقات الصحفية المحلية كلها مؤسسات ثقافية يجب أن تتمكن القوى المحبة للتعايش من أن تستخدمها أنثروبولوجيا لبث رغبة اكتشاف الآخر وفهم وفك رموز تصرفاته ومن ثم فتح أبواب التثاقف المزدوج معه. تثاقف ما بين «المحلي» و»الوافد» على أسس وبدوافع طيبة لا تؤمن بحتمية العداء بل بحتمية انتصار قوى الخير المتبعة للنهج العلمي. إذا نحن أمام حالة فشل عميق ومن أننا بحاجة ماسة إلى التغيير الثقافي من أجل السلم المجتمعي.

هـوامـش

(1) بول سندرمان (Paul Sinderman)هو بروفسور يدرس العلوم السياسية في جامعة ستانفورد-كليفورنيا.

(2) لوك هغندورن (Louk Hagendoorn) هو بروفسور العلوم الإجتماعية يدرس بجامعة أوترشت الهولندية (Utrecht).

(3) وقد كتبا كتابا بعنوان «عندما تتعارض طرق الحياة: الإستياءات من التـّعَدُدُ-ثـَقافية في هولندا» (2010

العدد 3151 - السبت 23 أبريل 2011م الموافق 20 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً