العدد 1289 - الجمعة 17 مارس 2006م الموافق 16 صفر 1427هـ

الجنون... فنون

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من جديد عادت الإدارة الأميركية إلى سياسة إطلاق تصريحات تحذيرية القصد منها تخويف المنطقة من مخاطر مختلقة بشأن المشروع الإيراني لإنتاج الطاقة السلمية. التصريحات ليست جديدة، لكن هناك عناصر إضافية يمكن مراقبتها لتكوين تصور واقعي عن الأهداف الحقيقية من وراء هذا القصف الإعلامي.

جورج بوش مثلاً وصف إيران بأنها «الخطر الأكبر على الأمن القومي الأميركي». وزيرة خارجيته أضافت على وصف رئيسها مجموعة «بهارات حارة» من نوع أن إيران «مصرف مركزي للإرهاب»... وهكذا. هناك إذاً موجة جديدة من التصريحات دأبت الإدارة الأميركية على إطلاقها دائماً حين تكون في صدد التحضير لشيء ما.

ما هو هذا «الشيء» الذي تحضّر له واشنطن؟ ولماذا هذا الشحن السياسي اليومي للرأي العام الأميركي والدولي؟

يمكن رصد الاتجاهات الأميركية التصعيدية من خلال متابعة المفردات التي تطلقها تلك الدوائر في «البيت الأبيض». فهناك مفردة تحاول الإدارة من خلالها حشد الشارع الأميركي بتكرار القول إن إيران هي مصدر خطر على «الأمن القومي» وهذا يعني أنه على الرئيس بوش أن يفعل شيئاً ما لدرء هذا الخطر.

ما هو هذا «الفعل» المطلوب من إدارة واشنطن القيام به لمنع هذا الخطر من الانتشار أو النمو أو التطور؟ انه بكل بساطة «الضربة الوقائية».

مفردة «الوقائية» استخدمت سابقاً في قاموس تيار «المحافظين الجدد». فالمفردة اخترعت بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وتحولت إلى استراتيجية عسكرية هجومية تبرر كل الأفعال والتجاوزات والحروب الاستباقية أو المفتعلة.

«الوقائية» استحدثت بعد هجمات سبتمبر للرد على المعترضين على سياسة الحروب الأميركية. واستخدمت آنذاك سلاحاً داخلياً ضد القوى التي ترفض زج الولايات المتحدة في معارك ليست ضرورية وتستطيع أن تستغني عنها.

جاءت مفردة «الوقائية» لسد الذرائع وبالقول للشارع الأميركي إنه لو قامت أميركا بضرب «طالبان» في أفغانستان لما تجرأت وأرسلت مجموعاتها لضرب نيويورك وواشنطن. وهكذا استخدمت المفردة في سياقين: الأول للرد على اعتراضات داخلية. والثاني لتبرير الحرب على أفغانستان.

انتهت الحرب النظامية بنجاح أميركي وحتى الآن لم تنجح الولايات المتحدة في استثمار تلك «الضربة الوقائية» سياسياً. فالرئيس الأفغاني لا يستطيع مغادرة قصره من دون حراسة أميركية. والوضع الاجتماعي - الاقتصادي - الثقافي لم يتغير بل إنه لايزال يعاني من تلك الأزمات القبلية - الرعوية التي كانت موجودة في عهد «طالبان».

النجاح العسكري في أفغانستان فشل في اعطاء مفعوله السياسي آنذاك (وحتى الآن) لذلك قررت إدارة «المحافظين الجدد» توسيع جبهة الحرب من خلال اختراع «أزمة ثقة» مع نظام صدام في العراق. وبسبب هذه الحاجة إلى الحرب اختلقت إدارة واشنطن مشكلة مع بغداد وبدأت تبحث عن ذرائع لتبريرها. وحين فشلت لجأت إلى مفردة «الوقائية». فالضربة يجب أن تحصل ليس لأن العراق يشكل خطراً الآن على «الأمن القومي الأميركي» بل لأنه قد يشكل خطراً في المستقبل. إذاً لابد أن نذهب إليه حتى لا يأتي إلينا كما حصل مع «طالبان» في نيويورك وواشنطن.

... وهكذا قامت الحرب على بلاد الرافدين باسم «الوقائية» ونجحت أميركا عسكرياً في الفوز بالحرب النظامية وحتى الآن لم تنجح في استثمار تلك «الضربة» سياسياً. فالعراق الآن في فوضى عارمة وليست «بناءة» بالتأكيد. ومع ذلك يصر بوش، مدعوماً من بلير، على أن الضربة كانت صحيحة وأنها جاءت بنتائج مثمرة وهي «توقي» خطر محتمل.

«الوقائية» تعني الكثير. وهي ربما قد تعطي الولايات المتحدة ما تريده من ذرائع لاختراع الحروب واختلاق الأزمات. فالوقائية مسألة نفسية وضد العقلانية وهي لا تتطلب الوقائع والمستندات والمعلومات. فكل ما تحتاج إليه لشفاء هذا المريض القابع في «البيت الأبيض» مجموعة اتهامات وفرضيات تقوم على الشكوك والظنون والتخمينات لإراحته من الاضطرابات العصبية والنفسية.

مفردة «الوقائية» كافية لهذا التيار المجنون الذي يحكم الولايات المتحدة. فهي «عذر أقبح من ذنب»، لكنها لا تحتاج إلى تفكير أو تخطيط أو جمع أدلة مادية. يكفي أن تدعي واشنطن نفسياً أنها قد تتعرض لخطر بعد عشرين سنة أو ثلاثين من هذه الدولة أو تلك... حتى تعلن الحرب بذريعة «الوقائية». فالوقائية عسكرياً تعني لإدارة مهووسة «ضربة استباقية» لمنع احتمال خطر ما قد يقع وقد لا يقع، ولكن الحرب ضرورية حتى يحاصر «الاحتمال».

انه جنون و«الجنون فنون» كما يقال. وحين يتحول الجنون إلى سياسة فعلى كل القوى أن تستعد لتلقي نتائج اعراض رجل مريض في مستشفى «البيت الأبيض».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1289 - الجمعة 17 مارس 2006م الموافق 16 صفر 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً