العدد 3156 - الخميس 28 أبريل 2011م الموافق 25 جمادى الأولى 1432هـ

تفكيك المنظومة الشمولية

زهير الخويلدي comments [at] alwasatnews.com

.

«لكي نحارب الشمولية ينبغي أن نفهمها على أنها تمثل النفي الأكثر إطلاقاً للحرية»

إذا كانت حركات التحرر العربي في القرن الماضي قد تشكلت من أجل التصدي للاستعمار ومشروعه الأمبريالي وفشلت نسبياً في القضاء عليه بشكل تام، بسبب نجاح الدول المستعمرة في تركيز أشكال سلطة موالية لها تحكمها نخب تربت في بيئتها الثقافية وساهمت هي في تأطيرها وتوجيهها قصد المحافظة على مصالحها والإبقاء على حالة التبعية تجاهها، فإن الثورة العربية الحالية قد اندلعت قصد التخلص نهائياً من هذه التركة الثقيلة والإجهاز على الاستبداد والأنظمة الشمولية التي تعاني من نقص في السيادة أمام التعديات الخارجية وتمارس التغول الأمني في الداخل وتعامل أفراد الشعب كرعايا خاضعين.

إذا كانت الإمبريالية تشير إلى الشر السياسي القادم من الخارج والتي تداهم الأوطان عن طريق حروب استعمارية ووحشية رأسمال فإن الشمولية هي شر سياسي يحكم الداخل بالقوة ويتميز بالتعطش إلى السلطة وإرادة الهيمنة وممارسة الإرهاب ويشكل بنية قهرية للدولة تمنع الناس من إدراك طبيعة الحقبة التاريخية التي يعيشون فيها وتحول دون تصورهم لشكل المجتمع في المستقبل الذي يطمحون إليه.

إن ما حصل في الآونة الأخيرة هو صحوة ضمير ويقظة عقلية وثورة في الفهم وإن المبتغى هو إسقاط الشمولية ولذلك ليس ثمة هدف آخر للثورة العربية سوى تأسيس الدولة الشعبية التي تستمد سيادتها من المشروعية الثورية وتحلم بالوحدة والاندماج وتنوير العقل والبصيرة وتحرير الأرض والعرض وإعادة الاعتبار لحضارة اقرأ على صعيد المعمورة والانبعاث العلمي والثقافي والإشعاع الحضاري.

إن هذه الأهداف لن تتحقق إلا بالتحرر من الإمبريالية والشمولية ولن يكتب للعرب إنجاح ثورتهم والعودة إلى التاريخ مجدداً وبشكل ريادي وإمساك زمام المبادرة والتأثير في مسار الحوادث العالمية والمشاركة في صناعة الكونية إلا بفهم الظاهرة السياسية الشمولية فهماً معمقاً وتأصيل العلاقة بين الدين والسياسة تأصيلاً فلسفياً والانتقال من الكذب السياسي إلى شهادة الحق ومقاومة العنف والبحث عن المشترك.

ما نراهن عليه هو تفادي الأحكام الإيديولوجية المغلقة والنظرة المثالية الطوباوية للشأن السياسي وما نسعى إلى إنجازه هو الإنصات إلى اللغة السياسية التي يتكلم بها الناس والتدبير الميداني لحياتهم وإتاحة الفرصة لهم من أجل العناية بذواتهم وتفجير طاقتهم الإبداعية وقدراتهم عن التنظيم الذاتي والترقي.

ما هو بديهي في العلوم الإنسانية هو أن الفهم يختلف عن التفسير العلمي الذي يتبع طريق البرهنة الرياضية والتثبت التجريبي ويبحث عن تطابق المعلومة مع الواقع ويشير إلى الانخراط في فعالية متواصلة دون غاية معدة سلفاً. كما يعتبر الفهم مساراً معقداً لا يصل البتة إلى نتائج متماثلة ونهائية بل يسمح بالاجتماع بالحقيقة بالاعتماد على تغييرات وضوابط متواصلة ويندرج ضمن المجتمع ويدفع المرء إلى الشعور بكونه يحقق ذاته بالوجود في العالم. وإذا كان الفهم يفضي إلى المصالحة مع الواقع والفعل فيه فإنه يرتكز أيضاً على الصفح في علاقة بأفعال غير مقبولة صدرت عن الآخر ويؤسس لبدء جديد وخاصة أن كل فهم هو صفح عن الكل وتفهم للأخطاء وتجاوز للتعديات وتخلص من الابتذال. إن الفهم هو خالق المعنى الذي ننتجه في مسار الحياة نفسها بالنظر إلى أننا نبذل الجهد من أجل التصالح مع أفعالنا وآلامنا.

إن الفهم هو الطريقة الخاصة التي يحيا بها الإنسان في مجتمع معين يراه مختلفاً مع قناعاته الفكرية ومخزونه الثقافي ويشعره بالغربة وسوء الفهم ويولد صعوبة تفاهم مع أفراده، ولذلك يكون الفهم هو النبراس الذي يهتدي به هذا الكائن الآدمي الغريب منذ لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة حتى يتفادى الضياع في العالم والتصادم مع الغير والتصدع الذاتي وتطليق المطلق وتصحير الوجود وإعدام القيم والغايات.

إن البعض يعتقد بإمكان التصرف في مسارات الفهم حتى يربي الآخرين ويساهم في تنوير الحشود وتشييد الرأي العام ويرى ضرورة استخدام الكتب كأسلحة والمواجهة بالكلمات.

بيد أن استخدام سلاح الكلام هو عنف صامت يبدأ حينما يتوقف الخطاب وإن الكلمات التي تستخدم في الخصومات تكف عن طبيعتها اللغوية وتتحول إلى مقولات فارغة من المعنى وأصوات مدوية ومؤذية.

إن فاعلية الفهم تغادر حقل المعارف والوقائع والأرقام والمعلومات التي يتحرك فيها التفسير وتتميز بالتطابق والصرامة والإطلاقية وتطأ أرض التجاوز والتناهي والحوار وتنتج المعنى والدلالة.

إن الأنظمة الشمولية تعمد إلى التعمية وإنتاج الضبابية وتصارع الفهم وتتصدى للنقد وحرية التفكير والذوق الجمالي وذلك عندما تحاول إدخال عنصر العنف في مجموع الحقل الاجتماعي عن طريق الدعاية السياسية والبروباغاندا والتعليم الموجه والثقافة التجارية والفن الهابط والفكر الدوغمائي والتدين المرضي.

من هذا المنطلق لا يمكن إدراك طبيعة الشمولية وأصولها عن طريق الحس المشترك والمعرفة المتداولة بل ينبغي الاعتماد على فن الفهم والانطلاق من التقاليد والأحكام المسبقة والمعايشة الوجدانية للظاهرة.

إذا كان فن الفهم هو الدواء الفتاك بسموم الشمولية الفتاكة وأمراضها العابثة بآدمية الإنسان ومستقبل الحياة على الأرض والتعايش بين الناس فإن المرء يتمكن من مواجهة هذا الداء العضال عندما يمتلك فهماً معمقاً بهذه الظاهرة السياسية والتاريخية وينتبه إلى حقيقتها البشعة والضارة وإلى طابعها الزائل والعرضي.

إن ما يرتبط بالشمولية هو الشر السياسي الأقصى وكذلك الرعب الذي لا يمكن تصوره ولا نجد له نظير في التاريخ البشري وذلك لأن هذه الظاهرة لا تستند إلى نظرية معروفة ولا إلى فكرة قبلية وإنما هي تطبيق أهوج وممارسة عمياء في قطيعة تامة مع التقاليد الأخلاقية والعادات والشيم الموروثة وتترتب عنها الكوارث والمخاطر على الجميع. لكن هل يكون الفهم هو السلاح الذي نتغلب به على الشمولية؟

«نحن لا يمكننا أن نعيد توجيه الصراع ضد الشمولية في اللحظة التي نتمكن عندها من فهم هذه الظاهرة، بما أننا لن ننتظر ولن نقدر على الانتظار حتى نفهمها بشكل نهائي مادام لم يقع التغلب عليها بشكل تام».

إن مسار فهم السياسة الشمولية هو مسار فهم الطبيعة البشرية نفسها والتعرف على شروط الانحراف بها نحو التدمير والمجهول وسبل الترقي بها نحو الرشاد والصلاح وتقوية إمكانات التفكير والفعل لديها.

كما أن فعالية الفهم ضرورية لكي تعطي معنى للمواجهة مع الشمولية ولكي تسمح بانبثاق إبداعية للفكر وتبصر للقلب وثورة اتيقية تسمو بالنشاط البشري بعيداً عن أشكال الفساد وضروب النقصان والتحريف.»إن هذا النوع من الفهم يرفض الشمولية من حيث هي مكونة للطغيان ويفترض ضمنياً بأن صراعنا ضد الشمولية يمثل معركة من أجل الحرية»، وبالتالي تصادر الشمولية حرية الإنسان بطريقة جذرية وتامة.

إن نفي الحرية يحول دون قيام تجربة فهم معمقة لظاهرة الشمولية في ظل حضور التعتيم والمراوغة والحجب والتستر وبالتالي يجب التمييز بين المعرفة التي تقوم على الوصف التاريخي والتحليل السياسي وتحاول البرهنة على وجود طبيعة أو ماهية للنظام الشمولي وبين الفهم الأولي وما قبل الفهم الذي يسمح بتجلي آثار هذه الشمولية على الفكر والجسد ويكتفي بالتعبير عنها من خلال تجاربه معها وتأثيراتها عليه.

إن الفهم الحقيقي هو الذي يتمكن من الصعود إلى الأحكام الخفية والمسلمات الضمنية التي تسند السياسة وإن الأمر يتحقق عندما يقع استثمار الفهم المسبق والقبلي والفهم العادي الذي يتشكل في الحياة اليومية بعيداً عن تنظيرات السياسيين وتحليلات العلماء ويشق طريقه رغم المصاعب والمتاهات ويمهد الطريق نحو الفهم المستنير والمتزن الذي يقطع مع التجريد المحض والتجارب المشتتة. إن الفهم هو البوصلة الداخلية التي نمتلكها وتجعلنا معاصرين لما نجحنا في الحصول عليه من مكاسب ورهانات ثورية

إقرأ أيضا لـ "زهير الخويلدي"

العدد 3156 - الخميس 28 أبريل 2011م الموافق 25 جمادى الأولى 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً