حين تكتب الصحافة الأرجنتينية عن دييغو مارادونا فإنها تستخدم لغة خاصة وكأنها تتحدث عن نبي. منذ زمن بعيد وصف بإله كرة القدم على رغم أن نجمه أفل في العام 1990 حين شارك آخر مرة في بطولة العالم وخسر مع فريقه المباراة النهائية أمام ألمانيا، فإن مارادونا ظل يشغل اهتمام وسائل الإعلام الأرجنتينية والعالمية ولايزال يفعل ذلك حتى اليوم.
منذ بزوغ نجمه حتى اليوم عرف العالم وجوه متعددة لمارادونا. كلاعب موهوب وشخصية شهيرة وقع في فخ المخدرات، وصاحب تصريحات سياسية تارة يشتم الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ويتظاهر ضده وتارة يرمي نفسه في أحضان الزعيم الكوبي فيدل كاسترو. بين تلك الفترة والأخرى يقضي بعض الوقت في مصحة إما للعلاج من إدمان المخدرات وإما لتخفيف الوزن. دائما الصحافة هناك حيثما يظهر مارادونا.
في 30 أكتوبر/ تشرين الأول العام 1998 كان يبلغ الكابتن السابق لمنتخب الأرجنتين 38 عاما من العمر وكان قد مر موسم واحد بعد اعتزاله اللعب حين أهدته مدينة روزاريو دي إيجليزيا مارادونيانا كنيسة تحمل اسمه. وحين كان ينقل فاقداً الوعي إلى المستشفى كانت محطات الإذاعة والتلفزيون الأرجنتينية تقطع برامجها لتطلع مشاهديها ومستمعيها على تطورات صحة مارادونا ويهرع كثيرون إلى الكنائس للصلاة من أجل تعافيه.
منذ سنوات يحتفل مشجعوه بعيد ميلاده كأنهم يحتفلون بعيد ميلاد المسيح. الجميع في الأرجنتين قرأ عبارته: أنا دييغو الشعب. وهذا أيضا اسم كتاب يتحدث عن سيرة حياته وهذا الكتاب بالنسبة إلى نحو 30 ألف عضو في كنيسة مارادونا بمقام الإنجيل وهؤلاء يرونه ابن الأرجنتين المعجزة. هناك أكثر من ذلك بكثير: القمصان التي تحمل صورته والتي زادت مبيعاتها عن القمصان التي تحمل صورة تشيه جيفارا، زجاجات نبيذ باسمه ومعارض دائمة، أما منتخب الأرجنتين فقد قرر عدم استخدام القميص رقم (10) بعد مارادونا الذي يبلغ اليوم 46 عاما من العمر. إنه واحد من ثلاثة من أشهر من أنجبتهم الأرجنتين: إيفيتا بيرون وكارلوس جاردل. علاوة على بطاقات المعايدة التي تحمل صورته هناك شريط دي في دي جديد يحتوي على 120 من أجمل الأهداف التي سجلها من بينها الهدف المثير للجدل ضد منتخب إنجلترا في بطولة العالم العام 1986 في المكسيك حين استخدم ما أسماه لاحقا (يد الله) للدفاع عن الهدف الذي سجله بطريقة غير مشروعة على رغم أن حكم المباراة ظلم الإنجليز واحتسب الهدف. على وقع موسيقى التانغو يستعرض مارادونا بالكرة ويبرز موهبته. وقال عنه اللاعب الفرنسي الدولي السابق إيريك كانتونا: «إن تأثير مارادونا على كرة القدم يعادله تأثير بيتهوفن على الموسيقى».
بداية مارادونا كانت في السابعة وخمس دقائق من صباح 30 أكتوبر العام 1960 حين أبصر النور في المستشفى الجامعي في مدينة لانوس التابعة لمحافظة بيونيس آيريس كابن لمهاجر إيطالي يدعى دييغو مارادونا وزوجته دالما وكان الابن الخامس من أسرة فقيرة. يتذكر الأطباء كيف صرخ والده فرحا بقدوم ولده وسرعان ما تنبأ بأن ابنه سيصبح في المستقبل محاسبا. قال مارادونا في مقابلة صحافية ذات مرة: «كنت فقيرا ولكنني كنت أشعر بسعادة بالغة كلما كنت ألعب الكرة». سرعان ما نسي الفقر أما موهبته فبلغت حد الرقص بكرة الجولف التي كان داعبها وكأنها تنفذ أوامره.
حين بلغ سن العاشرة من عمره ورد اسمه لأول مرة في إحدى الصحف على رغم أنه كتب خطأ، كارادونا بدلا من مارادونا. أول فريق لعب له كان اسمه سيبوليتاس أي البصلة الصغيرة. حين بلغ سن الثالثة عشرة بدأ يلفت أنظار المختصين بكرة القدم وسمي بالصبي الذهبي. في سن الـ 15 لعب لأول مرة مع فريق جونيورز بالدوري الأرجنتيني وبعد عام استدعي للعب للمنتخب الأرجنتيني. في سن الـ 17 ساهم بفوز منتخب الأرجنتين للشباب لسن 17 بكأس العالم وأعلن لأول مرة عزمه على الاعتزال. في سن العشرين انتقل إلى اللعب لفريق إيل بيلوسا أبرز منافسي فريق بوكا جونيورز الذي أصبح بالنسبة إليه حبه الكبير.
بعد حصوله على شهرة واسعة مع منتخب الأرجنتين خطا مارادونا خطوة كبيرة نحو النجومية العالمية بعد انضمامه إلى فريق برشلونة الإسباني في العام 1982 وأصبح معشوق جمهور هذا الفريق، ولكنه في الوقت نفسه بدأ يتعرف على مسحوق أبيض اللون هو مخدر الكوكايين الذي كان يساعده على مواصلة سهر الليالي. كان اسم مدير أعماله في ذلك الوقت غوليرمو كوبولا، رجل ليس غريبا عن عالم الجريمة في الأرجنتين.
بدءاً من العام 1984 أصبح مارادونا أيقونة بشرية في إيطاليا بعد أن ساعد فريق نابولي على الفوز ببطولة الدوري الإيطالي لأول مرة منذ نصف قرن. ثم بدأت علاقته مع ناديه تسوء وبدأت مصلحة الضرائب تلاحقه. حين بلغ سن الـ 26 قاد منتخب الأرجنتين إلى الفوز بكأس العالم وأصبح بعدها يوقع باسمه ويضيف رقم 10 الذي كان يضعه على قميصه. أصبح توقيعه الأغلى في العالم. ثم زاد سعره بعد قيادته منتخب بلاده للفوز على المنتخب الإنجليزي حين سجل الهدف الثاني لفريقه وانتقم لبلاده من هزيمتها في حرب الفولكلاند واستعان بيد الله - بحسب تعبيره - لتسجيل هدف لفريقه في شباك حارس مرمى المنتخب الإنجليزي بيتر شيلتون. تحول الهدف إلى أسطورة. الهدف الثاني الذي سجله مارادونا في شباك الإنجليز كان تحفة كروية بكل معنى الكلمة. فقد راوغ وجر وراءه خمسة مدافعين واعتبر هدف القرن العشرين.
وكتبت صحيفة كندية في العام 1986 «لو ولد مارادونا في كندا لوصلت كندا إلى نهائي كأس العالم في العام 1986». وكتب أبرز أدباء الأرجنتين إدواردو جالينو عن مارادونا: «هذا الشاب من القلائل في العالم الذين يجعلون الخيال أمرا ممكنا. لولا مارادونا لما جرت مناقشات في جامعة اكسفورد البريطانية بشأن سحر وجاذبية لعبة كرة القدم». وقال مدير أعماله كوبولا مرة: «مارادونا الذي لم يكمل دراسته الثانوية تم تكريمه في اكسفورد».
وهكذا وصل مارادونا بفضل موهبته كلاعب كرة إلى مستوى واحد في اكسفورد مع الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف والرئيس الأميركي الراحل جون اف كنيدي.
احتفل مارادونا بزواجه في بيونيس آيريس بحضور 1200 مدعو. في الغضون حصل طلاق، ولكن زوجته السابقة تعمل في منصب مدير أعماله بعد انفصاله عن مدير أعماله السابق كوبولا. وتساعدها في مهماتها ابنتاها من مارادونا. أفرط كثيرا في حياته وراح النجم العالم ينطفئ رويدا مثل الشمعة. كان يستحم بالشمبانيا ويزور محلات الدعارة ثم وضع وشم لصورة جيفارا على ساعده.
وقال زميله السابق في منتخب الأرجنتين خورخي فالدانو، الذي فاز معه بكأس العالم العام 1986 في المكسيك: «رحنا نحذره وقلنا له يا مارادونا إنك تتصرف وكأنك الرب، ولكنك مجرد إنسان ليس أكثر».
في العام 1991 ضبط الإنسان مارادونا لأول مرة وقد تناول عقاقير مقوية محظور استعمالها ثم وقع في العام 1992 على عقد للعب للفريق الإسباني إشبيلية. في العام 1993 أطلق عيارا ناريا من بندقية صيد على صحافي وفي العام 1994 طرد من مسابقة كأس العالم في الولايات المتحدة بعد اكتشاف أثر عقاقير مقوية في البول.
بدلا من الاعتراف بخطئه اتهم الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بالتآمر عليه، وقال: «لقد سعوا إلى بتر ساقي». ثم تواصل مسلسل الفضائح المرتبطة باسمه فأقام علاقة قوية مع تاجر مخدرات كبير من كولومبيا ثم اجتمع مع فتاة قيل انها ابنته من علاقة غير مشروعة، وفي العام 1997 توقف مارادونا عن الظهور مع الكرة وظل يداعبها فقط في حديقة منزله. في العام 2000 حين اختاره الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) أفضل لاعب في القرن العشرين كان قد سمن إلى حد أن رأسه كاد يغرق في جسمه وأصبح رسما كاريكاتيريا يثير الحزن.
انتهى به الأمر في المنتجع السياحي بونتا ديل إستا في أوروغواي بغرفة العناية الفائقة بعد تناوله كمية زائدة من الكوكايين ونجا من موت محقق بعد إصابته بأول نوبة قلبية.
قال مارادونا لاحقا إنه أحس نفسه طلع إلى السماء ثم مضى يقول ساخرا: «مازال الوقت مبكرا كي ألتقي المغني الأميركي الراحل ألفيس بريسلي أو أتبادل بعض الكلام مع إيفيتا».
طار المريض مارادونا إلى كوبا لتلقي العلاج ضد السمنة في مستشفى خاص ثم أصيب باكتئاب نفسي شديد عند عودته إلى بلاده وبالكاد بات أحد يتعرف عليه ونقل إلى مصحة للأعصاب.
في هذا الوقت ظن الكثيرون أنه انتهى. واصل بعدها تناول الخمرة بشراهة والكوكايين وراح يسهر ويمارس لعبة الجولف ووصل وزنه إلى 128 كيلوغراماً وصار يشبه أليس بريسلي قبل وفاته بوقت قصير.
في مطلع العام 2004 وقف كثيرون أمام مستشفى سويزو يصلون من أجل مارادونا الذي نقل على عجل إلى المستشفى وقد أصيب بالتهاب في الرئة وضعف في نبضات القلب وضيق النفس والسكري وأصبح على حافة الموت.
حين بلغ سن الـ 44 كاد أن يكون عامه الأخير ولكنه قرر الصمود والعودة وبدأ يعمل من أجلها. أجرى في كولومبيا عملية تصغير المعدة وخلال أسابيع قليلة خسر 60 كيلوغراماً من وزنه وعاد شكله كما كان سابقا.
حصل مارادونا على حياة جديدة ووظيفة جديدة في التلفزيون وأصبح يدير برنامج «ليلة الرقم 10» يستقبل فيه عارضات حسناوات ولاعبي كرة وشخصيات معروفة.
في أول حلقة استضاف نجم الكرة البرازيلية السابق بيليه ثم أجرى حوارا مع الزعيم الكوبي كاسترو وأشاد بالاشتراكية وأهان الرئيس بوش. حقق برنامجه انتشارا واسعا وكان يحظى بأكبر عدد من المشاهدين وأمام الكاميرا كان يبدو كطفل صغير سعيد بما يفعله.
قال إنه تعافى من مرض الإدمان على الكوكايين وبعد وقت قصير قال إن الخطر يقرع الباب. سافر مارادونا إلى قمة أميركا الجنوبية ليتظاهر ضد بوش وعند وصوله مطار ريو دي جانيرو تسبب في مشادة حامية لأن الطائرة تأخرت عن الوصول في الوقت المحدد ليشارك في مباراة خيرية على أرض البرازيل. حين سئل مرة عن خططه للمستقبل أجاب: «لا أعرف عما سأفعله في ربع الساعة المقبلة».
مارادونا في كل مكان في الأرجنتين: صدرت الصحف المحلية بملاحق خاصة بمناسبة عيد ميلاده رقم (45) وهناك أوبريت موسيقي يحمل اسمه ويعتقد زميله السابق في منتخب الأرجنتين أن مارادونا لن يصبح يوما إنسانا عاديا فهو إن سعى إلى ذلك لن يجد من يساعده. من هذا الإنسان صدرت العبارة الآتية: «حين أموت أريد أن أولد ثانيا لألعب الكرة وعلى قميصي اسم مارادونا ورقم 10»
العدد 1315 - الأربعاء 12 أبريل 2006م الموافق 13 ربيع الاول 1427هـ