العدد 3184 - الخميس 26 مايو 2011م الموافق 23 جمادى الآخرة 1432هـ

الثورات العربية وأخطار تكرار التاريخ

زياد منى comments [at] alwasatnews.com

.

مع انتقال البشرية من التنظيم البدائي القائم على الحياة العائلية إلى مجتمعات أرقى ضمن الدولة الصغيرة، ثم ضمن إطار الدولة القومية ومن بعدها الدولة متعددة القوميات، ظهرت الحاجة إلى تطوير فكرة التعايش الاجتماعي ووضع ضوابط للمسألة الأهم وهي العلاقة الاقتصادية الاجتماعية ككل، كان أولها «شريعة حمورابي– 1790 ق.م».

وقد نشأت أفكار تنظيمية متعددة كان آخرها الرأسمالي المتأخر القائم على النظام السياسي/ الاقتصادي الذي يعتمد الحياة التمثيلية. كما ظهرت محاولةٌ منافِسة هي الاشتراكية، لكنها أخفقت في مواجهة التحدي الأساس الذي واجهته وهو مسألة الرفاهية الاجتماعية.

لكن توافر الرفاهية الاجتماعية، حتى ضمن مقدرات الدولة والحدود الدنيا التي يدركها الأفراد، ليس ضامناً للاستقرار؛ حيث غالباً مَّا ينظر أفراد المجتمع إلى ما بعد ذلك، أي حرية التطور الشخصي، وهو ما يقود في معظم الأحوال إلى اندلاع ثورات، ما لم يدرك الأفراد أن ذلك الطريق سيؤدي إلى فقدان ما لديهم من حريات ورفاهية.

هذا العمى يؤدي في معظم الأحيان إلى اندلاع الحروب الأهلية التي تقضي على الأخضر واليابس.

مفكرو النظام الرأسمالي المتأخر ومنظروه وممثلوه، أدركوا أن الطريق الأكثر أماناً لديمومة سيادة نظامـ(هم)الذي حول البشر إلى مستهلِكِين، والقائم أساساً على الربح، «ترك» الشعب يختار ممثليه للحكم، ومنح أفراده أكبر قدر ممكن من الحرية الشخصية، أو إيهامه بأنه يمتلكها.

بكلمات أخرى، فليختر الشعب -عبر ممثليه المنتخبين- شكل الحكم؛ فليختر الشعب مضطهِدِيه.

من ناحية أخرى، تبنى منظرو النظام الاشتراكي قاعدة «وكم من أناس يقادون إلى الجنة بالعُصي»، ومع أن معظم المجتمعات في تلك الدول قبلت بهذا بدايةً بعد تجارب الحروب العالمية القاسية، وإن كان رضا بعضها على مضض، على أمل الوصول إلى السعادة الأبدية الموعودة، فإنهم ثاروا عليها بعدما تبين لهم أن العصا هي كل ما تبقى لهم من ذلك الشعار.


الربيع العربي والطليعة المزعومة

مع اندلاع الربيع العربي المزهر بكل ألوان قوس قزح - على رغم تلطخه إلى درجات متفاوتة بلون الدم الأحمر- تبدأ رحلة أمتنا للبحث عن السعادة.

لقد ملت من مختلف أنواع الظلم المفروضة عليها، ولم تعُد تتحمل حتى رؤية وجوه حكام لا همَّ لهم سوى مساواة الآلهة بهم، فانطلقت لتكسر حاجز الخوف والرعب الذي فرضه الطغاة المعتمدون على قوى الغرب الاستعماري على نحو أساس، وطالبت بحقوقها التي تصدح بها جهاراً ليلاً نهاراً في مختلف الميادين والشوارع.

لقد جاء الربيع العربي متأخراً، لكننا لسنا في وارد الحديث في مسبباته، لأننا نقصد بذلك أنه توافرت للقوى السياسية والفكرية العربية «اليسارية، مع حفظ الألقاب بالطبع»، والليبرالية، فترة زمنية طويلة نوعاً مَّا لدراسة التجارب العميقة التي مرت بها مختلف مجتمعات العالم، بما تحويه من أفضليات وسلبيات، لوضع برامج تحرر وطنية وقومية لشعوبنا المقهورة.

بدلاً من ذلك، رأينا أن ممثليها انخرطوا على نحو مثير للفجع والاستهجان في المشاريع الاستعمارية المحلية والعابرة للحدود.

فعلى سبيل المثال، من كانوا يطلقون على أنفسهم صفة الطليعة، أي الشيوعيين، أثبتوا أنهم كذلك في أمر واحد لا غيره، هو التحول إلى خدم للعدو السابق. فقد انقسمت تلك «الطليعة» المزعومة إلى ثلاثة أقسام رئيسة.

القسم الأول: يمكن وصفه بأنه «المفقود الأمل من مقدرته على التعلم واستخلاص العِبَر»، وهم الذين صمموا على اتباع الطريق ذاته الذي قاد الفكر الاشتراكي بشكله اللينيني، إلى مأزقه التاريخي الذي انتهى إلى هزيمة قاتلة، على أساس: «العملية نجحت لكن المريض مات»!.

القسم الثاني: مخادع وكذاب وواهم، همه الوحيد البقاء في الساحة السياسية مهما يكن الشكل والثمن، فاكتفى بتغيير اسمه إلى حزب «الشعب» أو ما إلى ذلك من الأسماء المخادعة.

القسم الثالث: وهو بكل أسف الأكثر عدداً، انتقل إلى معسكر عدوه «الإمبريالي» السابق، وصار خادماً ومنظراً له، ورأينا هذا على نحو مفجع في العراق، ولكن ليس فقط هناك، حيث خدمت قيادات الحزب الشيوعي العراقي تحت علم «الإمبريالية»، بل حتى توزرت تحت قيادة وكالة الاستخبارات المركزية، ونرى ذلك أيضاً في فلسطين حيث انخرطت قوى ليبرالية ويسارية في مشاريع تصفية القضية الوطنية.

وهناك قسم آخر قاده همه الوطني والقومي إلى الانخراط فرديّاً للعمل تحت قيادة حركات إسلامية رأى أنها تمثل جوانب من همومه التحررية الاجتماعية والسياسية الوطنية.

إلى جانب الحركات السياسة اليسارية والليبرالية التي سادت المشهد النضالي في العالم العربي، وجد مفكرون أن بإمكانهم التمعن في هموم شعوبهم وصياغة برامج فكرية تساعد الثورات المقبلة لا محالة، كما أثبتت الأحداث.

لكن ذلك الغياب القاتل يدفعنا إلى الحسم بأن العالم العربي لم يعرف مفكرين مستقلين، أو أنهم -إن وجدوا- كانوا إما غير مؤمنين بمقدرات شعوبهم وتطلعاتها إلى الحرية والتقدم، ولذلك لم يجهدوا أنفسهم في التأمل في مستقبل لم يكونوا على قناعة بأنه آتٍ، أو أن الزمن تجاوزهم فتحولوا إلى ناقلين لأفكار الغير، أو مرددين لمقولات وأفكار نمطية مقولبة، وهو ما يقودنا إلى ما نراه من أخطار قد تكون مثبطة لعزيمة أبطال حركة شعوب أمتنا العربية.


الشعارات النمطية والمقولات المقولبة

لقد اكتفت الجماهير المحتشدة في الساحات والشوارع برفع شعار التغيير، الذي يعبر عن حالة غضب لا حدود له، وتوق إلى الحرية عميق وعظيم، والعظمة لِلهِ الخالق فقط. ولذلك نرى أن القوى الفاعلة في تونس ومصر -على نحو خاص في ما بعد «سقوط النظام»- تحولت إلى رد فعل على تطورات سياسية واجتماعية تسابقها وتسبقها وتنافسها على «الظَّفر» بالنصر، من دون أن يعني كلامنا هذا إدانة أي طرف، أو الانحياز إلى هذا أو ذاك من البرامج في مقالتنا «الاعتراضية» هذه. لنأخذ على سبيل المثال؛ المطالبة بانتخابات حرة، وإقامة نظام تمثيلي، إما جمهوري بدلاً من رئاسي، أو ملكي تمثيلي (الدستوري) ليحل محل الملكية المطلقة السائدة في المغرب والأردن.

أكثر ما نخشاه هو أن هذه المطالب، أي حرية التشكل الحزبي وحرية الاقتراع وسريته وتداول السلطة، وهي مطالب شعاراتها نمطية ومقولبة بامتياز، على رغم مشروعيتها وأهميتها، ستبدو في نظر الجماهير العادية غير المسيسة كأنها الحل السحري للمشاكل كافة.

لكن بعد فترة سيكتشف القسم الأكبر من الناس أن حرية التعبير ليست مصرفاً يوزع الأموال، وأن التنظم السياسي التمثيلي لا يقيم اقتصاداً منظماً قادراً على تلبية حاجات المجتمع.

كما ستكتشف الجماهير ذاتها أن تطبيق حرية التشكل الحزبي لا تخلق طبقة سياسية متفانية في خدمتهم. وللعلم، في أحد استمزاجات الرأي في ألمانيا، طُلب من المشاركين فيه وضع لائحة بالمهن «الأكثر وضاعة».المرتبة الأولى كانت من نصيب السياسي، وحلت «الدعارة» في المرتبة الثالثة؛ بعد المحاماة، على ما أذكر.أقول هذا للتذكير.

لقد أخفق المفكرون العرب في الالتفات إلى مكونات الأنظمة السياسية الاجتماعية التي عرفتها البشرية، والنظر إليها نقديّاً، أي دراسة سلبياتها لتفاديها، وإيجابياتها للاستفادة منها.

فعلى سبيل المثال، عندما ندرس برامج أحزاب في دول تمثيلية متقدمة، نجد أن عكسها هو ما ينفذ بعد الفوز في الانتخابات. ولنأخذ مثلاً محدداً معروفاً هو وعد أوباما، غير المكلف للخزينة، بإغلاق معتقل غوانتانامو!.ألم يكن وعداً كاذباً، وكان يعلم قبل إطلاقه باستحالة تنفيذه.

فكيف إذا درسنا برامج الأحزاب الاقتصادية!

لذلك، كيف يمكن ضمان فرض الحزب الفائز في الانتخابات الالتزام بوعوده التي أطلقها في الحملات الانتخابية؟، وكيف يمكن طرده من السلطة في حال عدم الالتزام بالبرنامج الذي انتخب على أساسه؟، وكيف يمكن ضمان التزام عضو البرلمان المنتخب ببرنامجه وانتمائه الحزبي بعد فوزه؟!

لكن ثمة أموراً كثيرة على مجتمعاتنا أن تواجهها عند ترتيب أمور بيوتاتها وانتقالها إلى شكل الحكم التمثيلي، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر سيادة الأمية - بمعناها المطلق - بين العامة الذين سيشكلون الوزن الحاسم في أي انتخابات عامة، وانتشار الوساوس والخرافات والأوهام والهرطقات والشعوذات بينهم.

وعلينا عدم نسيان سيادة الولاء العائلي والعشائري والقبلي لدى أقسام كبيرة من الجماهير وتقدمه على الولاء الوطني الجامع، وكذلك خطورة التحريض الديني وإساءة استخدام تدين البشر الصادق، وكذلك المذهبية والطائفية والعرقية.كما تجب مواجهة كيفية إقناع الشعب بالانخراط في العملية السياسية، وكذلك التمويل الخارجي.

باختصار، المهمات الملقاة على عاتق الثورات أكبر بكثير مما يُظن، وأعمق مما يسود من رأي يعيش من نشر أوهام الحلول السحرية.


كي لا يكرر التاريخ نفسه مهزلة ومأساة

لقد عشتُ عملية التحول في «ألمانيا الشرقية»عندما بدأ -بتأثير من سياسة غورباتشوف (البرسترويكا والغلازنُست) خصوصاً- التململ بعد انتخابات المجالس المحلية، حيث امتنع كثير من الناخبين عن المشاركة كتعبير سلبي منهم تجاه النظام اللينيني.

والكل يعلم أن الشعار الرئيس الذي أطلقه المتظاهرون في مظاهرات مدينة لايبزغ في صيف العام 1989 كان «إصلاح النظام الاشتراكي».

لكننا نعرف، جميعنا، ما آلت إليه الأمور، حيث انضمت تلك الدولة إلى الاتحاد الألماني من دون قيد أو شرط (الاسم الرسمي لما يعرف بـ «الوحدة» هو «عقد الالتحاق أو الانضمام إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية»). لم يسمح لسكان ألمانيا الشرقية بإحضار أي من قيمهم معهم، ودفنت كلها في محيط المارك الألماني الغربي، ثم في النظام الجديد/القديم. وكذلك انتهى أمر رواد تلك الانتفاضات والثورات ومهندسوها ودفنوا هم وطموحاتهم الأولية في هوامش كتب التاريخ، ونُسي حتى اسم غالبيتهم.

لقد قيل الكثير من الغزل في النظم «الديمقراطية»الغربية، وكثير منها مقولات تضليلية، فهل انتخبت شعوب اليونان وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال وإيسلندا وغيرها، حكوماتها كي تقود البلاد إلى الإفلاس والخضوع لإملاءات الدول الأكثر غنىً في «الاتحاد الأوروبي»، ولشروط صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية!

لقد أفلست تلك الدول لأسباب محلية ودولية مرتبطة بطبيعة وجوهر النظام الرأسمالي المسمى تضليليّاً «اقتصاد السوق»، لكن الشعوب لم تثر ولم تحصل فيها اضطرابات تشكل خطورة على الأنظمة! ألقي باللوم على هذا الحزب أو ذاك، أو على سياسي أو اقتصادي محدد، وانتهى الأمر عند هذا الحد.

السبب أنها واهمة بأنها حرة.الحقيقة أن تلك النظم تمكنت من الحصول على رضا ثلثي المجتمع، الذي يعيش بدوره على حساب انعدام رفاهية الثلث المهمّش سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً.

نحن لا نود إطلاقاً التقليل من عظمة ما تحقق إلى الآن، لكن من واجبنا التنبيه إلى المخاطر لتفاديها والتعامل معها كي نهزمها.

وفي حال عدم تدارك مفكري الأمة في مختلف مجالات الحياة الأمور في بلادنا، فإننا نخشى أن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» الذي تحقق سيستحيل إلى «الشعب يريد انتخاب جلاده». ولا حول ولا قوة إلا بالله

إقرأ أيضا لـ "زياد منى"

العدد 3184 - الخميس 26 مايو 2011م الموافق 23 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً