العدد 3184 - الخميس 26 مايو 2011م الموافق 23 جمادى الآخرة 1432هـ

في ذكرى البتول

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

أبوها خاتم الأنبياء، وأمها خديجة الكبرى، وهي سيدة نساء العالمين. وُلدت بعد المبعث النبوي بخمس سنين، وعاشت في أحضان الرسالة والوحي، وتزوّجت واحداً من أصلب المدافعين عن الدين الجديد.

عند الهجرة كانت ضمن قافلة الفواطم، وكان زوج المستقبل هو الذي قاد الرواحل. وبعد عامين تقدّم لها فقبلته زوجاً، لتعيش السنوات التسع الأخرى من حياتها معه تحت سقف واحد، في حياةٍ كلها جهادٌ والتزامٌ ومحبةٌ وتضحيات. كانت تقوم بشئون البيت، وكان يقوم بما وراءه، متقدماً الصفوف في الغزوات، من بدر وأحد والخندق إلى فتح مكة، وما بعد بعد مكة. وفي سائر الأيام كان يعيش مع الناس، يحفر الآبار ويزرع الأرض، فقد كان يؤمن بأنه ما أكل أحدٌ قط خيراً من كسب يده.

لم يخلف أبوها (ص) ولداً، وحين ولدت له مارية المصرية القبطية ولداً لم يلبث أن فارق الحياة. وكان مشركو مكة يؤذونه حين يعيّرونه بالأبتر، فأنزل الله تعالى: «إنا أعطيناك الكوثر». فقد شاءت المقادير أن ينحصر نسله في هذه الحوراء البتول، حتى قال من لا ينطق عن الهوى: «كل بني آدم ينتمون إلى عصبة أبيهم إلا ولد فاطمة، فأنا أبوهم وأنا عصبتهم». وهكذا بقي ذكره، وامّحى ذكر أعدائه ومناوئيه.

في هذا البيت الطاهر الصغير، أنجبت لعليٍّ أربعة مصابيح، حسن وحسين وزينب وأم كلثوم، ومن هذه المشكاة، تفرعت أغصانٌ فارعةٌ قوي بها الدين، وافتدته بأموالها وأرواحها عبر القرون.

لم يكن بيتاً هامشياً مقموعاً، بل ظلّ يضخ الحياة والحركة والعنفوان في عروق الأمة، يواجه بها رياح التحريف والتضليل، وظلت الساحة حافلةً بحركات التغيير يقودها شباب هذا البيت الشريف. ولم تمضِ ثلاثة قرون إلا وقد قامت لهم خمس دول كبرى اشتهرت في التاريخ: الأدارسة في المغرب (194 هـ)، العلويون في الديلم بإيران (205 هـ)، البويهيون في فارس والعراق (321 هـ)، الحمدانيون في سورية والموصل وكركوك (293 هـ)، والفاطميون الذين بدأت حركتهم في تونس ( 296 هـ) وتوّجت بفتح مصر، حيث دخلوها بسلامٍ بعد خمسين عاماً من التريث والانتظار، ومن عجائب التاريخ ما شهده زماننا من اندياح حركة الثورة في المسار ذاته.

هذه الدول كلها قامت في قلب العالم الإسلامي، وكانت أعمارها في حدود المئة عام، إلا الدولة الفاطمية التي امتدت قرنين ونصف القرن. فحين دخل الفاطميون مصر، اختطوا عاصمتهم الجديدة (القاهرة)، وفي قلبها أقاموا الجامع الأزهر (المشتق من اسم الزهراء)، كأعرق جامعةٍ تنافس النجف الأشرف على لقب «أقدم جامعة في العالم». لم تكن الدراسة محصورةً على فقههم، بل أبدوا تسامحاً كبيراً، غير معهود في تلك الأزمنة وفي كثير من الأزمنة التي تلتها، ففتحوا الباب لتدريس فقه مختلف المذاهب الإسلامية. وهو تقليدٌ طيّبٌ ظلّ راسخاً في تربة مصر حتى الأزمنة الحديثة.

إلى جانب الدول التي تهرم وتشيخ، اهتموا بإقامة دول أخرى لا تشيخ، فأسسوا الجامعات والحوزات العلمية، التي امتدت من القيروان إلى القاهرة، ومن المدينة إلى الكوفة، ومن النجف والحلة إلى بغداد وقم وخراسان. ألم يقل تعالى: «إنا أعطيناك الكوثر»؟

قامت باسمها دولة، وكان أبناؤها من مشاعل التاريخ، وانتشرت ذريتها في الأرض كالأشجار البرية الأصلب عوداً والأقوى وقوداً، على رغم التشريد وعمليات الملاحقة والتصفيات. ريحانةٌ وقبسٌ من محمد (ص)، يحتفل كثيرٌ من المسلمين بذكرى ولادتها في العشرين من جمادى الآخرة من كل عام، ومن بينهم شاعر باكستان الكبير محمد إقبال الذي غرّد وأنشد فأجاد:

والمجدُ يشرق من ثلاث مطالع

في مهد فاطمة فما أعلاها

هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟

من ذا يداني في الفخار أباها؟

نورٌ تهاب النار قدس جلاله

ومنى الكواكبِ أن تنال ضياها

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3184 - الخميس 26 مايو 2011م الموافق 23 جمادى الآخرة 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً