العدد 3193 - السبت 04 يونيو 2011م الموافق 03 رجب 1432هـ

زمراني في مقاربة سيميائيةللتخييل الروائي عند الجزائري بكاك

عبدالرحمن غانمي

عن دار لارماتان l’Harmattan، بفرنسا صدرت للباحث المغربي جمال زمراني سنة 2009، في مجال المقاربات الأدبية، دراسة بعنوان: «سيميائية نصوص عزوز بـكاك، الجمالية الروائية والدلالية». Sémiotique des textes d’AZOUZ Bagag Esthétique romanesque et signifiance

والباحث جمال زمراني من جيل الباحثين الجدد ينتمي إلى مدينة القصر الكبير، ويدرس حاليا بالكلية متعددة التخصصات بخريبكة اللغة والأدب الفرنسيين، وهو حاصل على دكتوراه سنة 2004 في موضوع يتعلق بمقاربة سيميائية للأعمال الروائية للكاتب الجزائري عزوز بـكاك الصادرة ما بين 1986 و1997.

أما عن الكتاب النقدي فإنه يضم 303 صفحات من الحجم المتوسط، ويتكون من قسمين رئيسين، محورهما دراسة الشخصيات الروائية ومكونات الفضاء الروائي.

كل ذلك يتم وفق رؤية منهجية تتجه إلى قراءة بناء النص ودلالته، ومستويات ذلك سيميائيا، باستحضار مختلف التراكمات النقدية والمعرفية، التي برزت مع الشكلانيين الروس، والمدرسة البنيوية مع تودوروف وغيره من الباحثين المعاصرين الذين ركزوا على تحديد العديد من الآليات والتقنيات النصية على مستوى التصورات والمرجعيات، وأيضا ما تطرحه النصوص الحديثة المجاوزة للبنيات الأدبية الكلاسيكية، من بنيات تخييلية كثيفة.

في هذا السياق، استند الباحث جمال زمراني في معالجته لنصوص عزوز بـكاك، على خلفيات نظرية سيميائية تتغيا البحث في الوظيفة (مختلف الوظائف) السيميائية العامة داخل النص، وكيفية إنتاج المعنى في الخطاب الروائي أي إبراز الشفرات والآليات السردية، وفحص نظام الشخصيات ورهانات الفضاء، وكذلك توليد الدلالة وهيئاتها ومكوناتها، ويبدو أن الباحث يتكئ على رؤية، اختارت بقصدية، مبادئها المنهجية. في الوقت نفسه الذي عملت فيه على استدعاء المرجعيات المرتبطة بها، تعلق الأمر بأعمال الشكلانيين الروس أو الشعرية والبنيوية، أو الأبحاث السيميائية المعاصرة خصوصا مع كريماص، ومناقشتها، أي انه لا يكتفي بعرضها، وإنما يتوخى توظيفها تبعاً لما تمليه عليه خطواته ورؤاه المنهجية، فهو إذا كان يعتبر أن تحديد مفهوم الأدب هو مجموعة من أفعال النص Effets de texte وهو ما يتوافق مع رؤية كريماص، فإنه يرى أن الشكل لا يكمن في تحديد المفهوم، هذا، في حد ذاته، وإنما في ارتباطه بمسألة علاقة النص واتساقه مع الوظائف المعيارية لخارج النص أو داخله، وهو ما طرح مع الشعرية التي اعتبرت أن البعد الجمالي الجوهري للنص الأدبي، هو مدى أدبيته Littérarité باعتباره المحدد الرئيس للنص ولوقائعه الأدبية المتنوعة والكرنفالية وإنتاجاته المتباينة. قبل أن يركز على متن الأدبية المتعلق بجنس الرواية ومتخيلها وإعادة طرح السؤال بخصوص العلاقة بين الشكل والمحتوى في النص الأدبي، منتقداً الآراء التي تعمد إلى الفصل بينهما، وبالتالي فإن الباحث جمال زمراني، يرى أن الشكل لا ينفصل عن المحتوى، بل إن هذين العاملين الأدبيين المركزيين في أي نص أدبي يكملان بعضهما البعض، ومن خلال هذه المحددات المنهجية كان يتوخى الباحث مقاربة نصوص عزوز بـكاك بشكل يتيح الانفتاح على مناهج مختلفة، ويسمح بالاقتراب من خطوط التماس النقدي والرؤيوي.

هكذا، إذن، يركز الباحث على عملية إنتاج وبناء المعنى نصيا، الذي لا يتصل بشكل حصري بمحتوى موضوع عمل ما، وإنما يختزل سيرورة الكتابة ككل بكل آلياتها وتطبيقاتها وأشكالها الجمالية، الشيء الذي يدفع إلى إعادة النظر عمليا ونظريا في التقسيم والتمييز التقليدي بين الشكل والمحتوى، بمعنى آخر فإنه ينتصر للمفهوم الجديد للنص، وللكتابة بمعناها الجديد أيضا، والتي تشكل من عناصر شكلية ذاتية ومعبرة عن تيمات معينة، وبذلك فإن العديد من المظاهر يمكن أن تساهم في خلق معنى النص ومستوياته وتقنياته.

من هذا المنظور فإن هذه الرؤية المنهجية تتساوق مع نمط الكتابة الروائية التي يدرسها الباحث، والتي تنتمي إلى النزعات الإبداعية الجديدة، وهو ما ينتبه إليه جمال زمراني، فنصوص عزوز بـكاك ومصنفاته ليست وسيلة تعبيرية، فهي لا تعكس مضامين أيديولوجية بطريقة أيضا تسطيحية، أو تؤول إلى مجرد نمط يقوم على الزخرفة النصية الجوفاء، بل هي نصوص تنهض هندسيا من خلال التشاكل بين مادة هذه النصوص الروائية، وأنماط تمظهرات هذه المادة التي تتنوع في كل أعمال عزوز بـكاك المشتملة على خليط من تعدد الأصوات والأجناس وأشكال التمثيل والتسريد بين السيرة الذاتية إلى رواية الحكاية، ورواية المغامرة، ورواية الأطروحة، والرواية العجائبية، والرواية الكرنفالية.

أما بالنسبة لمكون الشخصية الروائية في نصوص عزوز بـكاك فإن الباحث جمال زمراني يستنبط أنماطا عديدة من الشخصيات المتعددة تبعاً لمواصفاتها روائيا ولوظائفها السردية في ضوء نسق أفعال الشخصيات le système des effet personnages من زاوية سيميولوجية، كما طرحها كريماص، وخصوصا ما يتصل بـ «الفعل» «Effet» والتناظر وأيضا تناول هذه الشخصيات من خلال مكوناتها النفسية والثقافية التي يخضع لها الساردون في أوضاع سردية مختلفة، إذ يمكن أن نرصد الشخصية ذات الكثافة العاطفية أو الوجودية، وكائنات أخرى ورعة، وأخرى عاطفية، أو تلك التي تتمأسس على تجارب ذاتية تكرس التخييل الذي يخرج عن المعقول، سواء ما مس الحالات العاطفية المعطوبة أو الاستيهامات وهواجس الحب واضطراباته، والتوهيم، هذا إلى جانب نماذج من الشخصيات التي تبنى تخييليا، لكنها تعكس مرجعيات ومحتويات نمطية وثقافية، مثل شخصية الأب الذي يقدم في صورة الأب الفظ والضحية، الذي تطغى عليه صفات الشراسة و العنف والإدهاش، وازدواجية عواطف الأطفال، أما الشخصية الأم فتقدم صورة المرأة الخاضعة والطائعة والعطوفة، بأبعادها في تفاعل مع العوالم التخييلية والنصيصات الأخرى، التي تعبر عن المخرب «الحكيم» ومحمد الشاذ، وصور أخرى من التناظر والتناقض أيضا، بكل ما تطرحه هذه المكونات والمظاهر الفيزيقية والرمزية من ديناميات دلالية، في سياق بلاغة توظيف لعبة الأسماء في النصوص وخاصياتها واختياراتها الجمالية وأصواتها.

المكون الروائي الثاني الذي كان محور هذه الدراسة النقدية، هو لعبة الفضاء وتصنيفها، مستعينا فيها الباحث بمفهوم التقاطب Polarité، كما أنتجته نظريات الأدب الروسية.

في مقاربة بعض أوضاعه إلى جانب تلك الفضاءات المباشرة، وتلك التي تشمل العديد من الأمكنة الدالة رمزيا، مثل الفضاء العائلي باعتباره مجالاً للغبطة والود، وعبر ذلك يتم تصنيف هذه الفضاءات بحسب أدلنة sémantisation التخييل الروائي من منظور تمفصل ثنائي يتواجه فيه الداخل مع الخارج.

الجدير بالذكر أن مفهوم التقاطب وإطاره، استعمل في النقد الروائي المغربي وتم تطبيقه على نصوص روائية مغربية مكتوبة باللغة العربية، ويكفي أن نشير إلى نموذج كتاب « بنية الشكل الروائي: الفضاء - الزمن - الشخصية» لحسن البحراوي، صدر في طبعته الأولى سنة 1990 عن المركز الثقافي العربي، نقرأ فيه ما يلي: «وتمشيا مع الخطة المنهجية التي أعلنا عنها عند اختيار التقاطب موضوع الدراسة، فإننا سنشرع بعرض صفات الحي الشعبي بوصفه فضاء اعتيادياً للحياة اليومية للمواطنين وذلك تمهيداً للبحث في تمفصلاته الطبوغرافية والدلالية الذي يسعفه إعداد جدولة تلك الصفات والتعليق عليها بما يوضح أهميتها في تشكيل البنية المكانية في الرواية»، ص 80

وفق هذا التصور تناول البحراوي بنية الشكل في الرواية المغربية، واعتبر أن هذه البنية في النصوص الروائية تقوم على التقاطب، وهكذا يتحدث عن أماكن الإقامة، وأماكن الانتقال... إلخ وهو ما يؤدي إلى اختزال الفضاءات التخييلية في هذه الثنائية وتمفصلاتها، ما يلغي، ويضع جانبا عناصر روائية أخرى، على مستوى مكون الفضاء وغيره من البنيات السردية والتخييلية، ما يدفعنا إلى القول إن التقاطب هنا، يحيل إلى الخارج نصياً، أكثر منه إلى شكل وبنية النصوص، لأنه قد يرتكز على قيم ومرجعيات ثابتة.

هي إذاً قراءة نقدية تبحث في البنيات العامة الفاعلة التي تؤطر سيرورة النصوص، بموازاة الغوص في تفاصيلها. فالباحث جمال زمراني ينتبه أيضاً إلى تقديم تأويلات تجمع بين المرتكز السيميولوجي والمرتكز التاريخي، لفضاءات بعينها مثل المنزل باعتباره تجلياً مكانياً للممنوع الخاص، أو الأمكنة المغلقة أو أمكنة التودد والتواصل، والعلائق المبنية على التعاقد والتوافق، وفي الفضاء العائلي يمكن الوقوف عند صورة المرأة وشخصية الأم، لكن هذا الفضاء (المنزل) هو كذلك فضاء للاحتجاز والسجن الاختياري والإرادي، وبالتالي فإن بنية التقاطب التي تحكم فضاء المنزل (فضاء التوادد، وفضاء السجن). تنسحب على فضاءات أعم وأشمل (فرنسا، الجزائر) وما يحملان من دلالات متناقضة.

وتأسيساً عليه، فإن الباحث جمال زمراني في مقاربته لنصوص عزوز بـكاك Azouz Bagag، يرى أن مكونات الرواية التخييلية، لا تعبر فقط عن مستويات وصفية ضيقة، فالسرود في أعماله لا تضيء فقط الحياة الشخصية للساردين وظروفهم وأحوالهم، وإنما تتعداه إلى النبش في الذات، وأيضا تاريخ المهاجرين ذوي الأصول المغاربية، إن التاريخ الشخصي للنصوص للشخوص الروائية لا يستقبل ويفهم إلا في إطاره العام تخييليا ومرجعيا، ما يطرح مسألة الهوية والانتماء الثقافي والاجتماعي، كل ذلك يخضع لتعبيرات متعددة وتقنيات تنويعية للفضاءات أيضا وإجراءاته الرمزية والدلالية.

في هذا الإطار، يلاحظ جمال زمراني أن النصوص الروائية لعزوز بـكاك تقوم ظاهريا على جمالية بسيطة، غير أنها مؤسسة على بنيات تخييلية معقدة، ومستويات لغوية ومرجعيات ثقافية متعددة، وأشكال تعبيرية متلونة ووسائط جمالية تجمع بين ما هو تخييلي جمالي وما يذعن لما هو واقعي أو المرجع المفترض، والتي تتمثل في مختلف أشكال التجسيد اللغوي الأجناسي المتعدد.

بصفة عامة، فإن الباحث في معالجته وتمثله لتلك النصوص الروائية، حتى وإن اعتمد على المنهج السيميائي، فإنه طبقه بطريقة سلسة ومرنة من خلال الانفتاح على مقاربات منهجية أخرى كالتصور السوسيولساني عند باخثين أو المنهج النفساني، وبذلك فإن هذه المقاربة لم تكن منشغلة بتبرير صلاحية وسلامة المنهج بشكل آلي، وإنما توخت إغناء التطبيق السيميائي على نصوص لها خصوصياتها لكاتبها الجزائري الذي يعيش في بلد آخر، والملتاع بإشكالية الهوية المتعددة والغيرية كما يتنفسها الشخوص، وكما عاشها كتاب آخرون في فرنسا من ذوي أصول أوروبية مثل تودوروف بطرائق متماثلة أو متباينة. كل ذلك، جاء بلغة فرنسية نقدية رشيقة وشفافة بوسائل منهجية محايثة للنصوص من حيث دواخلها وعوالمها الدالة

إقرأ أيضا لـ "عبدالرحمن غانمي"

العدد 3193 - السبت 04 يونيو 2011م الموافق 03 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً