العدد 3205 - الخميس 16 يونيو 2011م الموافق 14 رجب 1432هـ

مولدُ النورِ والحسام المعلّى

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يحتفل ملايين المسلمين في الثالث عشر من رجب كل عام، بمولد الإمام علي بن أبي طالب، في إحياء لمآثر ومناقب هذا البطل الهمام. ورغم وجود التضارب في الكثير من التواريخ، إلا أن هناك تواتراً وإجماعاً على وقائع حياة هذا الإمام، مولداً وملاحم واستشهاداً.

قصة المولد وحدها ملحمةٌ كبرى، لا يشاركه فيها أحد. فحين أحسّت فاطمة بنت أسد (ع) بآلام الولادة، أقبلت إلى المسجد الحرام وطافت حول الكعبة، وتضرّعت إلى الله أن ييسّر ولادتها. كانت من تلك الفئة القليلة المعروفة بالأحناف، التي بقيت متمسكةً بتعاليم إبراهيم الخليل (ع) في مكة، وسط أغلبيةٍ وثنيةٍ من القبائل العربية، تعبد الأصنام في أقدس البقاع، وتطوف حول البيت الحرام عرايا.

أثناء الطواف، انشق الجدار المعروف بالمستجار، فدخلت منه فاطمة لتبقى ثلاثة أيام في ضيافة رب البيت، حيث وضعته على رخامة حمراء كانت موجودةً في جوف الكعبة. وظلّ أثر الشق شاهداً عبر القرون، فحشاه المسلمون بالفضة. واقعةٌ تذكّر بعض تفاصيلها بولادة المسيح بن مريم (ع)، حيث استضاف الرحمن أمّه بعد أن انتبذت مكاناً شرقياً، واتخذت من دونهم حجاباً، لتضع مولودها في فلاةٍ نائيةٍ من الأرض.

الواقعة متواترة في كتب السيرة والتاريخ، ذكرها المسعودي في «مروج الذهب»، وقال الحاكم في «المستدرك»: «وقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين كرم الله وجهه في جوف الكعبة». وقال الحافظ الكنجي الشافعي: «وُلد أمير المؤمنين بمكة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يُولد قبله ولا بعده مولودٌ في بيت الله الحرام سواه، إكراماً له بذلك، وإجلالاً لمحله في التعظيم». واعتبرها الألوسي من الأمور المتفق عليها، في معرض شرحه لقصيدة عبد الباقي العمري حيث قال: «وفي كون الأمير كرّم الله وجهه وُلد في البيت أمرٌ مشهورٌ في الدنيا، وذُكر في كتب الفريقين السنة والشيعة، وأحرى بإمام الأئمة أن يكون وضعه فيما هو قبلةٌ للمؤمنين، سبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين».

الواقعة دخلت في الأدب، وقيل فيها الكثير من النثر والشعر، ومن أروعها ما قاله السيد الحميري (من شعراء القرن الهجري الثاني):

ولدته في حرمِ الإلهِ وأمنهِ.... والبيت حيث فناؤه والمسجدُ

بيضاءُ طاهرةُ الثيابِ كريمةٌ.... طابت وطاب وليدُها والمولدُ

ما لُفّ في خِرَقِ القوابل مثله.... إلا ابنُ آمنةَ النبيُّ محمدُ.

إن ملاحم التاريخ لا تحدث عبثاً أو صدفةً أو محاباةً، بل هي أقدارٌ من تدبير السماء، فـ «اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالته». فهذا الوليد كانت تخبّئ له الأقدار دوراً كبيراً في الذبّ عن الإسلام وحمل لوائه في معاركه الكبرى إبّان التأسيس لدولة المدينة. وقيّض الله أن يتربى في حضن صاحب الرسالة بعد أن كفله تخفيفاً عن عمّه أبي طالب أعباء الحياة، كما كفله (ص) عمُّه بعد وفاة جدّه عبدالمطلب.

هذا الوليد، سيدخل مع أصحابه نضالاً طويلاً ضد الوثنية، لأكثر من عشرين عاماً، تتخلّلها الكثير من الحروب والغزوات، وتنتهي بفتح مكة. وسيكون في مقدمة من يتولّون تطهير البيت الحرام من الأصنام، وتحطيمها ورميها في خندقٍ لتطأها الأقدام. وسيرى فيه الجميع نبراساً للفضيلة والاستقامة والثبات على المبادئ والمثل العليا، يوم يتأثر آخرون ببريق الذهب ومطامع الدنيا. وسيبقى أميناً على رأس الحركة التصحيحية والحافظة لمساره التاريخي.

هذا الوليد سيترك إرثاً فكرياً خالداً يعبّر عن عقيدة التوحيد ويصون جوهرها في مئات الخطب والرسائل التي تسلب الألباب ببلاغتها، بعد أن تتعرّض الأمة لتياراتٍ فكريةٍ وافدةٍ من اليونان والإغريق غرباً، ومن فارس والهند شرقاً. وقد لمح بداية المخاطر التي تتهدّد اللغة بعد اختلاط الأعاجم وما دخل على قراءة القرآن من لحنٍ أيام خلافته بالكوفة، فجلس مع صاحبه أبي الأسود الدؤلي وأمره أن يكتب للناس ما يصون ألسنتهم، وبدأ معه الدرس الأول: «الكلام اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ. الاسمُ ما أنبأ عن المسمى، والفعلُ ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن ما هو ليس اسماً ولا فعلاً». ثم قال لأبي الأسود: «انحُ هذا النحو»، ومنه جاءت التسمية.

كانت عينه ومشاعره وكل تفكيره على الإسلام وحياطته، وكان ينظر إلى المستقبل وما ستأتي به الأيام، يُخبر ببعض الوقائع ويلمح إلى أخرى. وكان يقول: «لو أحبّني جبلٌ لتهافت»، فضريبة الحب غالية. وكان يقرأ المستقبل ويتنبأ بما ستؤول إليه الأمور، بعد أن تتحوّل الخلافة إلى مُلكٍ عضوض: «من أحبّني فليستعد للفقر جلباباً». فهذه ضريبة المواقف التي يأخذها الرجال الرجال.

من ذريّة هذا الرجل الذي نحتفل بذكراه، حفظ الله نسل محمد بن عبدالله (ص)، ومن هؤلاء يبعث اللهُ في كلّ قرنٍ من يجدّد أمر هذا الدين. سلامٌ على عليٍّ في الخالدين

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 3205 - الخميس 16 يونيو 2011م الموافق 14 رجب 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 8:07 ص

      ولد بالكعبة فكان لها وفيا

      ولد سلام الله عليه بالكعبة فكان لها وفيا وتربي بكنف الرسالة فكان لها مخلصا فقد فدى الرسالة بنفسه في عدة مواقف وقف مع الرسالة حين عز الناصر
      فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا

    • زائر 11 | 6:19 ص

      مــــــولد الحــــــــــق

      اللهم صل على الصراط الواضح والنجم اللائح والإمام الناصح والزناد القادح الإمام علي ( عليه السلام )
      أخي نبيك ووليه وناصره ووصيّه ووزيره ومستودع علمه وموضع سره وباب حكمته والناطق بحجته والدّاعي إلي شريعته وخليفته في أمتّه ومفرج الكرب عن وجهه.قاصم الكفرة ومرغم الفجرة ،وسلمت ما رقمته خمسك اللطاف ،وجزاك الله خيرا لهذه الكلمات في حق حجة الله البالغة ( قطاف الحرية )

    • زائر 10 | 5:40 ص

      ابو هاشم

      على عالى على كل عالى على ياموكل من الرب على ما نصبك منصوب لاكن بالنص منصب.السلام عليك يااميرالمؤمنين

    • زائر 9 | 5:21 ص

      مدينة العـلم العــظيم محمد *** والباب للصـرح العظيم غدا علـي.......... ام محمود

      بـعث الاله الى الانام محمدا *** وأتمها بخلافة المولى علــي
      وتنـزل القرآن عند محمدا *** وكمال تأويل الكتاب غــدا علــي
      والى معاريج السماء محمدا يرقى*** فيلقى عند سدرتها علي
      ويهاجـــر البلد الحرام محمـــد*** ويبيت مختبــأ بمرقده علـــي
      ويقيم صرحا للجهاد محمدا *** من ذا الذي صرع العتاة سوى علي
      في خندق الأحزاب نادى محمدا *** من ذا لعمر فأنبرى يمضي علي
      وكذاك في أحد اصيب محمد *** فــر الجميع وكــان كــرارا علـــي

    • زائر 8 | 4:27 ص

      من أقوال الامام عـــــــــــــــــلي عليه السلام : النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت *** أن السعادة فيها ترك ما فيها .......... ام محمود

      نبارك للأمام الحجة محمد بن الحسن عج ذكرى ولادة الإمام علي بن أبي طالب إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وصاحب الحوض وقاسم الجنة والنار ووصي رسول الله ص ..والسر المستودع والحافظ لعلوم الأوليين والآخرين وما حدث وسيحدث الى قيام الساعه
      لم يُخلق شبيه له في شجاعته وعبادته وورعه وزهده وعلمه وتقواه وجهاده في سبيل نصره الاسلام واعلاء كلمة الحق وهو قاضي القضاة وبليغ البلغاء وسيد الحكماء.
      حسنا فعلت يا سيد بذكرك لمعجزة الولادتين الشريفتين للامام علي والسيد المسيح عيسى بن مريم ع

    • زائر 6 | 2:51 ص

      علي

      علي ويكفيك انك عليا

    • زائر 5 | 2:26 ص

      قلم بارع في كتابة التأريخ والسير

      في يوم مولده الكثير من العظة والعبر وفي يوم وفاته أيضا الكثير من العظة والعبر .....

    • زائر 4 | 1:22 ص

      علي مع الحق والحق مع علي ( حديث شريف )

      مبارك على أمة محمد صلى الله عليه وآله ميلاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام نفسي بحب علي المرتضى طربت .... والناس من فرط إخلاصي له عجبت لا عذبالله أمي إنها شربت ... حب الوصي وغذتنيه باللبن كم من حقوق له عند ومن منن ... الحمد لله في سر وفي علن وكان والد يهوى أبا حسن ... فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن أفضل الصلاة والسلام عليك يا رسول الله محمد و آل محمد صلوات صل على محمد جمعة مباركة وميلاد سعيد ( وحفظ الله البحرين ببركته )

    • زائر 3 | 12:36 ص

      السلام على علي

      علي التبر والذهب المصفى --- ........ احسنت يا سيد ، كفيت ووفيت وانشاء الله يكون المقال في ميزان حسناتك

    • زائر 2 | 11:15 م

      شكرا

      شكرا لك يااستاد حسين , حقا لك يوم من ايام الله.

    • زائر 1 | 10:58 م

      غريب الرياض

      احسنت و بارك الله فيك. سلام الله عليك يا امير المؤمنين و الصديق الاكبر و الفاروق الاكبر. بجملة بسيطة للرسول (ص) في غزوة الخندق نعرف مكانة الامام علي (ع), مع ان مكانته واضحة من افعاله و اعماله و ما تحتاج الى دليل من فم الرسول. ما ينكرها الا عنيد:
      ((اليوم برز الايمان كله, للشرك كله))
      صدق رسول الله (ص)

اقرأ ايضاً