العدد 3246 - الأربعاء 27 يوليو 2011م الموافق 26 شعبان 1432هـ

في انتهازية المديح

سوسن دهنيم Sawsan.Dahneem [at] alwasatnews.com

الذين هجوا وعابوا على المتنبي حرفته للمديح، تعاملوا معه وكأنه يتحرك خارج دائرة السلطة والحكم، وبعيداً عن البلاط وقتها. ما الذي يُتوقع من شاعر بخيل، وفي الوقت نفسه تجاوز طموحه المال إلى الحكم ولو حكم ضيعة؟ هل يمارس هجاء في الوسط الذي قادته بلاغته وحسه إليه؟ ذلك أمر، أمر آخر يتصل بطبيعة المجتمعات في تلك الفترة التي تحكمها العلاقات البسيطة، بحكم بساطة تركيبة المجتمعات نفسها. لم تكن المجتمعات مركّبة لتنتج عن ذلك التركيب عقد، والأهم من ذلك مثلت طبقة الشعراء قطاعاً في السوق إذا صح مثل هذا الاصطلاح. قطاعاً اقتصادياً إنتاجه المديح ومداخيله العطايا والخلع والامتيازات. وكان قطاعاً يمثل الصفوف الأمامية عبر شخوصه وأفراده وفي مقدمة المتنفذين وأصحاب الجاه والحظوة والتأثير والسطوة.

كان قطاعاً انتهازياً بامتياز وانتهازيته لا تكمن فيما يتلقى من عطايا وخلع وجوائز وامتيازات؛ بل في قراءاته للأحداث من حوله، ومتابعتها ورصدها ومن ثم تجييرها لصالحه وبما يصب في تراكم حضوره وتأثيره وسطوته وثرائه.ذلك في المجتمعات التي لم ينل منها التركيب في البنية الاجتماعية التعقيد في التشكل والامتداد من حيث النظم والإدارة كما هو شائع اليوم، حتى في القرى النائية التي لا تخلو من تعقيداتها في الدول التي نالت حظها من التحديث وتطور قيم العيش عدا الحديث عن المدن في مجتمعاتنا المعقدة والمركبة بعد الطفرات التي شهدتها بفعل الثروات النفطية وما استتبعها من تحولات.

في المجتمعات المعاصرة ومجتمعاتنا خصوصاً لم تعد البلاغة والحس هي المدخل والمؤهلات الكفيلة بالذهاب إلى المديح الموجه كي يمكن لأي منتسب إلى هذا الحقل النفاذ إلى أوساط المال والسطوة والقوة. ثمة اعتبارات فرضتها طبيعة تركيبة المجتمعات ومؤشرات تحولها والنظام المعقد الذي تتبعه في انتخاب الصفوة من المدّاحين من حملة البيان وموهوبي الكلمة وصيادي الفرص ومنتهزيها.

اعتبارات تطال فحوصات واختبارات مرهقة تمس آدميتهم أولا وقدرتهم على الثبات في المواقف وعصف اللحظات التي فيها ينفض الناس لمجرد أن يلوح خطر يهدد وجودهم المباشر عدا تهديد ما تطلعوا إليه أو حتى ما اكتسبوه.

وعلينا هنا أن نقف عند ملاحظتين في المجتمعات المتأخرة التي أسهم شعراؤها في تشكل ملامحها وتقديم صورة لبيئتها السياسية والإبداعية، الأولى تتعلق بشعراء انتهازيين بامتياز على رغم إمكاناتهم وطاقاتهم قادتهم انتهازيتهم وطموحهم المنفلت وغير المدروس ضمن واقعية الزمن من جهة، وواقعية التعامل مع طبيعة مؤسسات الحكم وقتها من جهة أخرى، إلى خيبات وأحياناً إلى مهالك. بعض تلك المهالك جاءت من هجاء عابر احتفظت به ذاكرة المهجو فأودت بحياة صاحبها والمتنبي نموذج تلك الخاتمة في محصلة الهجاء ونموذج انتهازي في الذهاب إلى المديح ضمن تطلعاته.الملاحظة الثانية أن شعراء سبقوا المتنبي وبعضهم عاصره وطرف ثالث جاء بعده، وإن كانوا جزءاً من بيئة السلطة وقتها إلا أنهم وضعوا مسافة بين مشروعهم الشعري وبين تلك البيئة وإن مارسوا فعل المديح ونصه بحيث لم يؤخذ عليهم ترددهم على تلك البيئة من جهة وظلوا محافظين على مشروعهم - في مساحة كبيرة منه بعيدا عنها - وكانوا محل استقطاب وإغراء عملت عليه السلطة وقتها من دون اندفاع أو تنطع منهم (أبوتمام والمعري نموذجا)؛ إذ لم يعرف عن الاثنين انتهازية بالمعنى الفاقع الذي عرف به أبوالطيب المتنبي؛ فيما البحتري على رغم رومانسيته التي عرف بها باعتباره «مصوراً كاميرته اللغة» فيما يتعلق بالطبيعة إلا أنه كان ممعنا في انتهازيته هو الآخر وإن بدرجة أقل من أبي الطيب المتنبي.

في زمننا الراهن تقدمك وسائل الإعلام نجما لوسط المال والسطوة ومؤسسات الحكم وعن بعد آلاف الكيلومترات. تلك صناعة أخرى.

تعقدت تركيبة المجتمعات ولكن ثمة وسائل بسطت وسهلت المرور والعبور إلى الضفة الأخرى من المكان وحتى القناعات. البلاغة باتت جاهزة ومعلبة والحس هو الآخر في حكم التحكم به عن بعد!لم تعد البلاغة والحس مقياساً للوصول حتى إلى منبر ظل حكراً على الذين موهبتهم الوحيدة أنهم سابقون في الحضور بغض النظر عن قيمة ونتاج ذلك الحضور.لكل زمن اشتراطاته. اشتراطات قدرتك على إثبات حضورك بكفاءة وقدرتك على الذهاب في الانتهازية، بحسب المنابر الشاغرة والبلاغة آخر همّها

إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"

العدد 3246 - الأربعاء 27 يوليو 2011م الموافق 26 شعبان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً