العدد 3255 - الجمعة 05 أغسطس 2011م الموافق 05 رمضان 1432هـ

مَنْ التابع لِمَن: السياسة أم الدِّين؟ حسن الترابي نموذجاً

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

حسن عبدالله الترابي رئيس حزب المؤتمر الشعبي السوداني المعارض، سياسيٌ ومُتفقهٌ في الدين إلى مديات واسعة جداً، وقبل ذلك هو خطيبٌ مُفوَّه بامتياز. تستمع إليه، فتكتشف أن أفكارك أمام تحدِّ جديد، يختلف عما كان عليه قبل سماعِك له. تقرأ إليه، فتلحظ أنك أمام لغة عربية مُعَتـَّقة يعزف حروفها امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، لكنها ممزوجة بلغة العصر وهمومه. وقد تابعت لسانه وقلمه لِحَدِّ الهَوَس، طمعاً في المعرفة.

أتذكر جيداً، أنه وفي السادس من يناير/ كانون الثاني من العام 2004، قدمت قناة «الجزيرة» القطرية حلقة خاصة، ضمن برنامجها الشهير «الاتجاه المعاكس» عن فهم المسلمين للعلمانية. في الجانب الأيمن، جيء بالمفكر العلماني الفرنسي من أصل جزائري، وأحد أعضاء لجنة الحكماء العشرين الفرنسية البروفيسور محمد أركون. وفي الجانب الأيسر جَلسَ الأستاذ المتفرغ بجامعة الأزهر الشريف الأستاذ إبراهيم الخولي. وبعد ساعتين من النقاش العلمي المحتدم، بدا أن الخولي صاحب اللسان الهاروني النابه قد هَزَمَ أركون شر هزيمة. إنها فضيحة!

احتجَّ العلمانيون العرب بشدَّة على هذه النتيجة المدوِّية التي رآها العالم على الهواء مباشرة، بعد أن أظهر ذلك البرنامج الحواري ذهاب ريح حجتهم أمام الإسلاميين، خصومهم التقليديين منذ أيام قيصر. بعد أسبوعين بالتمام، وبالتحديد في العشرين من يناير 2004م كفرت القناة الإخبارية عن ذلك الفعل، بإقامتها حلقة حوارية أخرى بين خصمَيْن، أحدهما إسلامي، والآخر علماني بجرعة زائدة. مَثـَّل الإسلاميين حسن الترابي، في حين مَثل العلمانيين صادق جلال العظم، الذي اختِيْرَ بعناية حتى يُعيد الاعتبار للعلمانيين العرب، نظراً لما يمتاز به من قوة في الفكر وسلاطة في اللسان. قلبَ الترابي من موازين الحلقة ومراميها، وتسلم المبادرة بجدارة، جاعلاً من الحلقة ساخنة جداً، يقودها أنداد أقوياء فعلاً.

في هذه الحلقة، اتصل الباحث والكاتب السوري المرموق جورج طرابيشي موجهاً حديثه لمديرها قائلاً: «إسمح لي أولاً، أن أهنئك على هذه الحلقة من (برنامج) الاتجاه المعاكس. وهذا بعكس الحلقة السابقة عن العلمانية. فهذه المرة نجد أنفسنا أمام متحاوِرَين مُتكافِئين ونِدَين، يردّ كل منهما للآخر الصاع بالصاع، أما في الحلقة الماضية (محمد أركون/ إبراهيم الخولي) فقد وضع رجل عالم لا يُتقن سوى لغة العلم والمفاهيم الباردة الهادئة العلمية في مواجهة خطيب ومحرِّض جماهيري يُتقن الخطاب الأيديولوجي وفن الردح التهييجي، ومن ثم فقد خَرَجَ العالِم الهادئ من المناظرة، أو أخرِج منها مهزوماً ومهزومة معه فكرة العلمانية».

هذا فيما خصَّ لسان الترابي، وقوة بيانه. أما قلمه، فلا يختلف عن قوة الأول. فعندما تقرأ كتابه «السياسة والحكم... النظم السلطانية بين الأصول وسُنن الواقع»، أو تفسيراته للقرآن الكريم، أو فتاواه الجدلية بشأن زواج المرأة من المسيحي، وتولي غير المسلم الحكم في السودان، فإنك تقرأ ديناً بفهم جديد حقاً. ليس بالضرورة أن تقتنع بما جاء فيه من نكات، ولكن أن تتلمَّظ أفكاراً جديدة، فهذا يعني أنك على خط تعظيم العقل مادام هو على خط التشكيك. فالعقول العظيمة مُتشككة، كما كان يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة.

هذا هو الترابي في لسانه وقلمه. أما إذا وُصِلَ ذلك اللسان وذلك القلم بالسياسة وشئون الحكم، فإن الأمر يأول إلى أمر آخر تماماً. وقد صِرت مُقتنعاً أكثر من أي وقت مضى، أن أدبيات الحكم السياسي لا تقبل أبداً عفاف العِمامة أو تدينها؛ ولا اللغة الواضحة التوريطية؛ لأن السياسة والحكم هما باختصار، ناديان للقمار، وماخوران للفساد لا يستقيمان مع أي شيء غير هذا. فإذا ما وَصَلَ أحدهم إلى الحكم، واشتغل في تسيير أموره بالتعامل القِيَمي الصرف أصبح حاله كحال آل ساسان وما صاروا إليه من الضعف والهوان بعدما كانوا به من شِدَّة الأركان. وربما هذه هي الحقيقة التي لا خجل فيها سوى نكران وجودها.

الترابي ليس استثناءً من ذلك. فأفكار الرجل، كانت تدور مدار السلطة والسياسة وليست الدين الذي أثبتت التجارب أن السياسة هي التي تكيِّفه، وهذا هو متن الحكم الجاري. لنرجع إلى تجربة الرجل السياسية قليلاً. فقد عُيِّن حسن الترابي نائباً لرئيس مجلس الوزراء في السودان بعد تشكيل الحكومة الائتلافية بين حزب الأمة، والجبهة الإسلامية القومية يرأسها الصادق المهدي. إلاَّ أن الجبهة (التي ينتمي إليها الترابي) خرجت من الائتلاف، وبالتالي من الحكومة، احتجاجاً على دخول الصادق المهدي في محادثات سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وما تلا ذلك من تطورات كإلغاء حالة الطوارئ. كانت هذه هي مُبررات الخروج.

إلا أن الترابي نفسه، كان عرَّاب انفصال الجنوب لاحقاً. فعندما وصلت ثورة الإنقاذ الوطني إلى الحكم بقيادة عمر البشير إثر انقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو/ حزيران من العام 1989، وكان الترابي حليفاً لزعامتها، كان الحال الجديد قد جَبَّ ما سبقه من سلوك سياسي. وكان الترابي مُهندساً للكثير من سياسات الداخل والخارج حتى بعد الخلاف الذي حصل في نهاية التسعينيات بينه وبين البشير. لكن، وعندما وقع الخلاف الكبير بين الرجلين والذي أدَّى بالترابي إلى السجن بدأ الرجل يقول ما كان ينفيه سابقاً. صار يعتبر اتفاقية نيفاشا التي وُقِّعَت في العام 2005، هي السبب في اقتطاع جزء مهم من السودان، وهو الجنوب صاحب الثروات.

اليوم يُصرِّح الترابي لصحيفة «الحياة» (وهي المقابلة التي كانت مِخرزاً لهذه المقالة)، بأنه لو لم يكن في السلطة لما انفصل الجنوب عن الشمال. هذا تعيير للحكم القائم في الخرطوم وتسفيه لمشاريعه. فالترابي هو في حقيقة الأمر يلعب دور حكم الظل في السودان. يقول ما يُعاكس الحكم، ويفعل ما يُغايره. يُؤكد ما كان ينفيه سابقاً، وينفي ما كان يُؤكده في السابق. في لقائه مع صادق جلال العظم، كان يقول إن «الفن كله تاب إلى الإسلام، والاقتصاد كذلك تاب للإسلام». اليوم يقول الترابي إن «الفقه الإسلامي خال من التأصيل السياسي. ولا يوجد اقتصاد إسلامي ولا فن إسلامي ولا رياضة إسلامية»!

هذه ليست انتهازية سياسية لا من الترابي ولا من غيره إذا ما وُصِلت بأمر السلطة ومتطلباتها. إنها حقيقة السلوك السياسي. فجميع الشئون خاضعة لأمر السياسة. لا الدِّين ولا غيره يُستثنى منها. فالتخريجات التي تصب في ذلك لا حصر لها. ومادام الشعار هو حماية الدين، فإن السياسة بأي شكل كانت هي جائزة. هذا هو التفكير الفعلي القائم ولا شيء غيره. وما كان يقوله الترابي أمام جلال العظم شيء، وما عَمِله في السلطة أو المعارضة شيء آخر

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3255 - الجمعة 05 أغسطس 2011م الموافق 05 رمضان 1432هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 9:32 ص

      بحسن نيبة

      اما قول الترابي «الفقه الإسلامي خال من التأصيل السياسي. ولا يوجد اقتصاد إسلامي ولا فن إسلامي ولا رياضة إسلامية»!
      فهو يقصد الواقع الذي نعيشه في حياتنا والذي وضعنا عليه السلفيين وعلمائهم فقد اخرجوا الاقتصاد والفن والرياضة من الدين فلا يوجد كتتب تتكلم عن الامر من ناحية فقهية .
      اما خروجه من حكومة المهدي فهو بسبب مذكرة القوات المسلحة التي هددت الصادق المهدي بالانقلاب العسكري اذا لم يخرج الترابي وجماعته من الحكومة الائتلافية والمذكرة نشرت في الجرائد السودانية استبق الترابي الحرب ضده بالانقلاب

    • زائر 9 | 5:14 ص

      محمد اركون والنظرة الى التراث من منظار علمي ثوري

      يدعو اركون في كتاباته الى رفع القدسية عن التراث من اجل قراءة نقدية عقلية وعلمية ، قراءة تنتهج الشك الديكارتي الذي يقطع الحدود المسيّجة والمعرقلة لحركة العقل ، نعم الفكر الاسلامي قد مر بمراحل تكوينية متعددة عبر 14 قرن امتزجت فيه الاهواء والمصالح الطبقية وانقسم الى اكثر من 72 فرقة كل فرقة تدعي الحق والصواب وان من خالفها على خطأ وفي ظلال وانها هي الفرقة الناجية وما بقى فهي في نار حامية ، 72 فرقة مزقة الاوطان واصبح الصراع المذهبي والقتل على الهوية من سمات هذا المجتمع الذي يتشدق بالتسامح

    • مواطن مستضعف | 3:36 ص

      عوفيت أيها الأخ الفاضل الكريم "محمد"

      لا السياسة لا تنفصل عن الدين, و لكنّها انفصلت عنه بإنفصال المسلمين عن دينهم.

    • زائر 7 | 3:26 ص

      قارئ سنابسي

      مع الإحترام للكاتب الكريم فالترابي من وجهة نظرنا أنه ذلك الشخص المتلون كألوان الطيف لا يحده مبدأ يسير عليه في السياسة ..فالسياسة متقدمة في خطواته عاى الدين !!! ومقولة أن العقول العظيمة متشككة فهي مردودة أن العقول العظيمة ثابتة ومتيقنة لا يشوبها شك ولا ظن لأن تحترم عقلها ولا تنتسب إلى (((فهم في ريبهم يترددون))) فلا ننبهر بالغرب ومقولاته ..

    • زائر 6 | 3:22 ص

      من التابع السياسة ام الدين في ضوء ما تشهده بحريننا من انقسام مجتمعي على اساس الدين والمذهب

      من السهولة على اي فرد او جماعة التغني بنشوة الانتصار وهزيمة الخصم في ظل غياب وجهة نظر الآخر المقيّدة والمغيّبة بفعل سلطة الاستبداد الاجتماعي قبل السياسي وبفعل الخطوط الحمراء والتي تمنع العقل من الابحار في مساحة اوسع ، ومن البساطة ان يسجل هذا الكاتب انتصارات فكره في ظل غياب القراءة والاطلاع في اوساط العامة وانفتاحها على الآخر ، نعم من التابع السياسة ام الدين اذا ما طبقناه على ما نعانيه نحن في بلادنا والذي يشهد انقسام طائفي مقيت ينذر بحرق الأخضر واليابس ويمزق الوطن الى اشلاء ، من المسئول

    • زائر 4 | 1:49 ص

      الى الزائر رقم 2

      جاء الترابي وذهب وبقيت كل هذه الامور! إذاً هو ليس سبب لها

    • زائر 3 | 1:47 ص

      روي عن علي(ع) : لو لا التقى لكنت أدهى العرب

      الغالب بالشر مغلوب
      المؤمن هو الكيس الفطن

    • زائر 2 | 12:32 ص

      الترابى

      حقا ان الترابى زعيم اسلامى محنك متمكن فى اللغة العربيه والاسلاميه معا ----لكن ---
      وصل الترابى الى سدة الحكم عن طريق الانقلاب العسكرى ---هنا ظهرت افكار الرجل السياسيه ---والدينيه والتى ماذالت اثارها يعانى منها الشعب السودانى وهى تتلخص فى الاتى
      اولا انشطار السوان
      ثانيا تحرير الاقتصاد
      ثالثاحرب الجنوب
      رابعا الدفاع الشعبى
      خامسا علاقة السودان الخارجيه
      سادسا هيمنة حزب الترابى سابقا على سدة الحكم
      سابعا وافكار اخرى لم ترى النور منها ناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع لا اكلنا مما زرعنا

    • زائر 1 | 10:52 م

      هذه الوسط وكتابها شكرا لكم

      الوسط تتشح من جديد بعراقتها ، وهذه الاقلام هي المنار للتقدم والرقي فعلا نحتاج لسبر اغوار كل فكرة فذه منتجه مثمرة نقتبس ونستلهم منها للمسير نحو افاق. رحبه كي نرتقي بلغة الحوار بعيدا عن حفلات الزار والردح على الجراح فقد جربتها امم قبلنا فنكس بهم المركب .

اقرأ ايضاً