العدد 1365 - الخميس 01 يونيو 2006م الموافق 04 جمادى الأولى 1427هـ

الجبرتي شاهد على عصر التحولات المؤلمة

أوروبا تواصل تقدمها والعالم الإسلامي يتخبط

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

توفي مؤسس الاشتراكية المثالية (المسيحية) سان سيمون في العام ، وهي السنة التي تصادف فيها رحيل المؤرخ عبدالرحمن الجبرتي. أهمية المصادفة ليست في الافتراق عن الحياة الدنيا وإنما ما تعكسه من مفارقة على مستوى الاختلاف في نمو حضارتين. فأوروبا في عصر سان سيمون حققت إنجازات كبرى على درجات تطور المعرفة والعمران حين نجحت القارة في تطوير شخصيتها القومية وتدويلها في الان. بينما كانت دولة الإسلام تتراجع قدراتها التنافسية وتلهث لتحقيق خطوات تعطيها فرصة أخرى للممانعة وحماية هويتها والتصدي لتلك الاختراقات العسكرية التي بدأت بتسجيلها وتحديداً بعد «مؤتمر فيينا».

رحل سان سيمون في وقت نجحت النخبة الأوروبية على اختلاف أنواعها وانماطها في اكتشاف عوالم من الفنون الأدبية والعلمية والفلسفية والاجتماعية والادارية والاقتصادية. فأوروبا في سياق تقدمها العمراني توصلت إلى تطوير بناها في دائرتي الدولة والمجتمع. فالدولة تطورت وتحولت وانتقلت تاريخياً من الدوائر الضيقة والعصبيات الموروثة إلى إطارات موسعة تعيد إنتاج القديم في ضوء المكتشفات الحديثة وما تركته من انعكاسات على صعيد الاقتصاد والحياة الاجتماعية والنظرة الفلسفية للإنسان والكون.

سان سيمون كان خطوة إضافية في سياق آميال من التحولات. فقبله شهدت أوروبا ولادة ماكيفيلي وفيكو وبيكون وغاليليو وهوبس وديكارت وسبينوزا ولوك ونيوتن وليبنز وباركلي وباتلر وهيوم وفولتير ومونتسكيو وروسو وكانط وفيخته وشيلر وبينثام إضافة إلى هيغل وكونت. فهؤلاء الفلاسفة وضعوا أسس التقدم المعرفي واسهموا في تأسيس أو إعادة اكتشاف سلسلة حقول من العلوم الإنسانية تناولت الدولة والدين والمجتمع والوجود والإنسان والكون والتطور والتاريخ. وقام هؤلاء بإعادة تأسيس مناهج تعتمد على آليات في قراءة عناصر التقدم وأصوله. وساهمت هذه المناهج في إعادة طرح مجموعة مفاهيم للتداول على طاولة البحث والتشريح.

انتجت هذه القراءات سلسلة حقول مترابطة أو متعارضة ولكنها في النهاية شكلت مداخل حديثة لمدارس فلسفية ستبدأ أوروبا بالتعرف عليها في القرن التاسع عشر. فأوروبا الجديدة لم تقطع عن ماضيها وانما كانت دائماً تحاول تطوير نفسها والبحث مع الجديد لتحقيق المزيد من التقدم. وكان كلما اتسع نطاق العمران اتسعت معه دائرة المعرفة. فكل فيلسوف أو باحث أو مكتشف أو مخترع كان يضيف ما عنده على أعمال من سبقه. وادى هذا التراكم المعرفي إلى تشكيل وعي متقدم في نوعيته فظهرت مدارس تتحدث عن فلسفة الحق، واخرى عن فلسفة الإرادة، وغيرها عن فلسفة العقل، أو فلسفة التاريخ، أو فلسفة الاجتماع، أو فلسفة الدين، أو فلسفة اللغة... والإنسان، وغيرها من روافد بحثية استندت كلها إلى الموروث اليوناني والروماني وفلسفة أوروبا في العصر الوسيط وما انجزه المسلمون في هذا المضمار من نقل أو إضافات.

رحل إذاً سان سيمون في لحظة تاريخية مفارقة، فهو ذهب في وقت كانت أوروبا تستقبل تاريخها. بينما الشيخ/ المؤرخ ذهب في وقت كانت السلطنة العثمانية تستعد لتوديع تاريخها على رغم المحاولات التي بذلها السلاطين والوالاة ورجال الدين (في الازهر ونجد) من جهود لوقف التراجع.

انها مفارقة زمنية في لحظة تصادف فيها رحيل أحد رموز الاشتراكية المثالية (المسيحية) في السنة التي رحل فيها أحد رموز آخر المؤرخين القدامى. فالجبرتي المؤرخ هو ذاك المثقف القلق الذي تعلم وتربى في الكتّاب التي كانت تشكل في ايامه المجال الوحيد في القرى لتعليم القراءة والكتابة وحفظ القرآن تمهيداً للانتقال إلى المدينة والدراسة من جديد في الأزهر على يد كبار الشيوخ.

بعد رحيل الجبرتي ستبقى مدارس الكتّاب وسيبقى الأزهر وعشرات المراكز الدينية تلقن الطلبة وتعلمهم أصول الدين والفتوى (القضاء) ولكنها ستتعرض إلى منافسة قوية من الدولة المحلية وكذلك من الارساليات والمدارس الأجنبية. وفي هذا المعنى الزمني يشكل الجبرتي علامة على لحظة الافتراق الحضاري بين الإسلام وأوروبا وفي الآن علامة أخرى على لحظة الانقسام السياسي بين إسلام الدولة (مؤسسات عصرية مستحدثة) وإسلام المجتمع (مؤسسات أهلية موروثة). فبعد الجبرتي ستشهد المنطقة العربية - الإسلامية بداية تحولات انقسامية بين الدولة من جهة والمجتمع من جهة. وستدخل الدولة سواء تلك في اسطنبول (عاصمة الخلافة) أو دويلات الولاه في الشام ومصر بدايات حقل التنافس ومن ثم التصادم بين نموذجين: الأول مستورد من أوروبا والثاني مستحدث من الموروث التاريخي الإسلامي.

وهذا الانقسام بين الإصلاحية والاحيائية سيولد لاحقاً تيارات أخرى متضاربة ومتصادمة على مختلف القطاعات والمستويات. وسيؤدي الأمر إلى نشوء ايديولوجيات «حداثية» و«عصرية» منقولة أو مترجمة عن امهات كتب الغرب الأوروبي لتدخل في منافسات ومواجهات مع الإسلام الأهلي في شقيه التقليدي (العلماء ورجال الدين) والمعاصر (الاحزاب ورجال الإصلاح والإحياء). وحتى أيامنا لاتزال هذه المعارك مستمرة على أنواعها.

إذاً يشكل الجبرتي علامة مفارقة على المستوى المعرفي في لحظة شهد العمران في ديار الإسلام ما يشبه الجمود أو الوقوف أمام تحولات الزمن. بينما يشكل سان سيمون علامة مفارقة في لحظة شهد العمران في أوروبا طفرة نوعية قارية وكونية. وبسبب هذا الاختلاف يمكن ملاحظة مسحة التأمل والتفاؤل والاحساس بالسعادة والانتصار في كتابات كانط وهيغل وسيمون مثلاً بينما نلاحظ تلك الفسحة من التشاؤم والاحساس بالضعف والقلق على الهوية ومستقبلها عند الجبرتي.

سيمون مثلاً تخيل المستقبل وتصور هياكل مدينته (دولته الاشتراكية) ورسم مواصفات ذاك المجتمع وعناصره وقواعده والأسلوب الأفضل لتنظيمه وحكمه. بينما الجبرتي وصف حاضره فهو شهد تحولاته السلبية وراقب وتابع واحتك بحملة نابليون على مصر فوجد فيها بعض الأمل في أولها واكتشف تلك الاعطاب التي احدثتها في المجتمع في آخرها.

هيغل أيضاً نظر إلى حملات بونابرت على أوروبا من نافذة المستقبل لا من زاوية الماضي. الجبرتي خاف من الحملة الفرنسية وتخوف من نتائجها وأهدافها. هيغل قرأ عناوينها من خلال شعارات الثورة التي راهن على قوتها التأثيرية في مستقبل القارة. الجبرتي نظر إلى الحاضر من خلال المقارنة مع الماضي فوجد الراهن اسوأ بينما نظر كانط وهيغل وسان سيمون إلى الحاضر بعيون المستقبل فوجدوا ان الأيام الأتية أفضل من ماضي أوروبا. والمقارنة في المعنى التاريخي صحيحة. فماضي أمة الجبرتي أفضل من حاضرها لذلك تخوف من سلبيات المستقبل بينما ماضي قارة كانط وهيغل سيمون اسوأ من حاضرها لذلك انشدّت أفكارهم نحو التفاؤل والاطمئنان الداخلي والسعادة بامكانات التقدم والتطور في المستقبل.

المصادفة إذاً جعلت من الجبرتي علامة على زمنين ومفارقتين. فهذا الشيخ/ المؤرخ جاء من أسرة نزحت من قرية جبرت قرب ميناء زيلع على البحر الأحمر. وحين ولد الجبرتي في العام م (هـ) كانت المنطقة تابعة للحبشة. هاجر جده من القرية في نهاية القرن السادس عشر وتولى رواق الجبرتية في الأزهر. وفي هذا الجامع الشريف تعلم الجبرتي الحساب والفلك والتقويم وغيرها من علوم الدين والتاريخ والفقه.

على رغم سوء أحوال زمن الجبرتي فإن هذا الشيخ/ المثقف كان محظوظاً لانه سيشهد في عصره تحولات كثيرة ستدفعه إلى تسجيل وقائعها في تاريخه. فالجبرتي الذي عاش قرابة عاماً سيكون شاهداً على وقائع لانزال نعاني منها حتى الان. وبسببها سيتحول لاحقاً إلى أحد أهم كبار المؤرخين الذين وصفوا الحوادث وكتبوا عنها بمشاعر تبعث على الاسى والقلق. فهذا الشيخ/ المثقف أرخ عصره ووصف في مؤلفاته فترة تفكك السلطنة العثمانية واضطراباتها الداخلية وتصادمها مع بقايا دولة المماليك ومحاولات المماليك التمرد على السلطة العثمانية، كذلك سيشهد حملة بونابرت على مصر وبلاد الشام في العام ، وتفككها ودخول المنطقة عصر الصراع الدولي على المشرق العربي واطرافه. أيضاً وهذا هو الاهم في حياته سيشهد بدايات ما يسمى بعصر الإصلاح في عهد محمد علي وتحالف وخلاف الوالي المصري مع العثمانيين في عهد السلطان محمود الثاني.

أهمية الجبرتي انه غطى فترة الاحتلال الفرنسي إلى العام ، ثم كتب تاريخ مصر في أربعة مجلدات تناولت حقبات تمتد من العام إلى العام . أي انه أرخ حوادث المنطقة إلى ما قبل السنوات الأربع من رحيله. وهذا العمل يشكل مادة تاريخية لقراءة تلك الفترة التي حملت معها متناقضات قذفت بالمنطقة من حال إلى اخر.

هذا جانب من مأساة الجبرتي. الجانب الآخر تعرض المنطقة في عصره إلى سلسلة هجمات أجنبية شكلت لاحقاً بدايات انقلاب تاريخي زعزع استقرار السلطنة ودفع قواها إلى التنافس على مراكز القرار والقيادة وأخيراً السقوط في دائرة الاستعمار الأوروبي من محيطه إلى خليجه. هذا السقوط لم يحصل دفعة واحدة وإنما جاء على دفعات بدءاً من حملة بونابرت التي شكلت الصدمة السلبية الأولى لبدايات «حداثة» داخلية أخذت تتلمس طريقها التاريخي المستقل. فالحملة احدثت انقسامات ودفعت القوى الحداثية آنذاك إلى التراجع عن اطروحاتها وإعادة النظر في بعض جوانب سياساتها.

الصدمة السلبية الأولى انعكست بقوة في كتابات الجبرتي حين انتقل من تأييد الحملة والمراهنة عليها والتفاؤل بها إلى العداء لها. وما حصل للجبرتي من تبدلات في وعيه تكرر عند الجيل الأول الذي انخدع بشعارات الثورة الفرنسية.

مشهد الاحباط وصفه الجبرتي في تاريخه حين أشار إلى اقتحام جنود نابليون الأزهر الشريف وتحطيم أبوابه ونوافذه وبعثرة مكتباته وتمزيق كتبه والعبث فيها. فحين يجد مثل هذا المثقف المؤمن «كتاب الله» ممزقاً على الأرض وخيالة بونابرت تدوس عليه لا يمكن ان يستمر على موقفه السابق المؤيد للانفتاح والتلاقح والتفاهم والاستفادة من علوم الفرنجة وما حققوه من إنجازات على صعيدي العمران والمعرفة. فالمشهد كاف لإحداث هزة نفسية وردة ثقافية تحاول استخدام الهوية سلاح

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1365 - الخميس 01 يونيو 2006م الموافق 04 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً