العدد 1369 - الإثنين 05 يونيو 2006م الموافق 08 جمادى الأولى 1427هـ

أخلاقيات «البايع ومخلّص»

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يذكر الشريف الإدريسي، الجغرافي العربي المعروف، في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» أن رؤساء الغواصين في البحر يسكنون في جزيرة أوال، وأن أعلى هؤلاء الغواصين أجرة هو «أصبرهم تحت الماء وكل واحد منهم يميّز صاحبه ولا يتعدى طوره ولا يُنكر فضل من تقدّمه وفاقه في المعرفة والصبر». هذا وصف يقدمه الإدريسي لأخلاق أهل أوال في القرن السادس الهجري، إلا أن هذه الأخلاق تمرّ اليوم بتحولات واضحة بفعل ما أسميناه في مقال الأسبوع الماضي بضغوطات «الخير المحدود» وسوء توزيعه، وهي الضغوطات التي سيكتب لها، إذا ما تضاعفت مع تقدم الأيام، أن تُحلّ البحريني الانتهازي الحسود الطماع ضيق الصدر محل البحريني السمح البشوش المتواضع. وسيعمد هذا الجيل الجديد من البحرينيين إلى تحويل كل شيء في الوطن إلى موضوع قابل للمنافسة والحسد والطمع والمساومة والبيع والشراء، وبما في ذلك الأخلاق طبعاً. وعندئذ لن تكون الأخلاق - كما في أصل مفهومها - بمثابة «الروح» والأعراف التي تحكم الجماعة وتنظم علاقاتها وتحفظ تضامنها، بل ستصبح جدارة الأخلاق بالتمثل والاتباع مرهونة بكفاءتها في مراكمة المكاسب والمنافع. فالكذب، على سبيل المثال، سيكون جيداً إذا كان نافعاً ويدر على صاحبه المزيد من المكاسب والمنافع وهكذا.

وأتصور أن الذهاب بعيداً في عملية «تسليع الأخلاق» ستخلق تعارضاتها الخاصة، وأبرزها ظاهرة البحريني الذي يرفض منطق البيع والشراء رفضاً جذرياً، وسيكون تطرف هذا النوع من الناس بمقدار تطرف الانتهازيين والحسودين. وأبلغ تعبير عن هذا النوع هو ما يميزه التعبير الشعبي الشائع على أنه «بايع ومخلّص». وهذا تعبير شعبي متداول على ألسنة الناس في الخليج كما في العراق، وهو تعبير يستخدم لمن اتصف بالتهور والرعونة وعدم المبالاة والاكتراث بعواقب ما يقول وما يفعل. وشخصياً لا أعرف أصل الحكاية في هذا التعبير، إلا أن العبارة تسمح بإعادة تركيب السياق المفترض لهذه الحكاية. فالتعبير ينطوي على إشارة إلى بائع وانتهاء ونفاد شيء ما، وربما كانت البضاعة هي هذا الشيء المنتهي (المخلّص). فالتعبير إذاً يتحدث عن بائع انتهى من بيع كل بضاعته ولم يبق لديه شيء يبيعه. والربط بين هذه الحكاية المفترضة وبين دلالة التعبير على التهور واللامبالاة وعدم الاكتراث يقود إلى «حكمة» هذا التعبير، وهي أن أخلاقيات البائع وطبائعه متغيّرة، فهو قبل انتهاء البضاعة على حال، وهو بعد أن يبيع كل ما لديه و«يخلّص» على حال أخرى. فأحوال الود والطيبة والسماحة والخلق الكريم التي يكون عليها «البايع» قبل أن «يخلّص» تنقلب إلى تجهم ولامبالاة وعدم اكتراث، فتراه يتصرف بلا مسئولية من عقل وضمير وقانون وأخلاق.

ربما كان أصل الحكاية في هذا التعبير يعود إلى السوق وأخلاقيات التداول والمعاملات التجارية، من بيع وشراء، إلا أن الاستعمال الشعبي حوّل هذا الأصل، وصار التعبير اليوم لا يمت بصلة إلى هذا السياق إلا بقدر ما يتوافق هذا السياق مع «حكمة التعبير». وبهذا صار هذا التعبير عاماً في كل أشكال المعاملات التجارية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، وصار علامة على خلل في أخلاقيات التفاعل بين الناس في أي مجال من المجالات. وهو خلل يهدد بتقويض هذه الأخلاقيات وبنسف كل أشكال التفاعل القائمة. ولذلك فإن هذا الخلل ينبغي بذل الجهد في تأجيل وقوعه قدر الإمكان، صوناً للأخلاقيات الاجتماعية وحماية لكل الفاعلين في هذه المجالات.

و«البايع» هنا دور قد يشغله أي فاعل اجتماعي، ولكن بشرط أن تكون لديه «سلعة»، والسلعة تعني بضاعة أو خدمة لها قيمة استعمالية وتبادلية، وهو ما يستلزم وجود أطراف أخرى تستعمل هذه السلع وتكون طرفاً في عملية التبادل كما هو الشأن في علاقة البائع مع المشتري، والصحافي مع قراء الصحيفة، والنائب البرلماني مع ناخبيه، والسياسي مع قواعده الشعبية، والدولة مع مواطنيها، والأستاذ مع تلاميذه، ورجل الدين مع جمهور المتدينين، والمجتمع مع أفراده وغيرها. وفي كل علاقة من هذه العلاقات يوجد طرفان، ويكون لدى أحد الطرفين «سلع» أو «أشياء ذات قيمة» إلا أن هذه «السلع» لا تكتمل قيمتها إلا بوجود الطرف الآخر. وتكون عملية التبادل هذه ذات مردود إيجابي على كلا الطرفين. وهذا ما يجعل هذا النوع من العلاقات محكوماً بأخلاقيات معينة تضمن سلامة هذه العلاقة واستمراريتها، وقد تكون هذه الأخلاقيات أخلاقيات منفعة أو مسئولية أو تضامنية أو غيرها. فالكاتب الصحافي بحاجة إلى قراء يقرأون ما يكتب ويتفاعلون معه بالسلب أو بالإيجاب، والمترشح للانتخابات بحاجة إلى أصوات الناخبين بغية الفوز، وهكذا هو حال بقية الفاعلين.

ومن بين الضمانات على استمرارية هذه الأخلاقيات أن عملية التبادل هذه عملية مستمرة، فاستمرارها يحتم على الجميع الاحتكام لتلك الأخلاقيات. إلا أن كل شيء ينقلب حين يتوهم أحد الطرفين أن نفاد «سلعه» في عملية التبادل الأولى تعني انفكاك العلاقة بالكامل، وانفصام عرى الروابط بين الطرفين. هذا التوهم هو الذي يقوّض تلك الأخلاقيات ويستبدل بها أخلاقيات «البايع ومخلّص»، وهي أخلاقيات اللامبالاة وعدم الاكتراث وعدم الانضباط بأية ضوابط. فكأن «البايع» حين تنفد كل سلعه يتحرر من قيد تلك الأخلاقيات التي خضع لها وحكمت علاقته بالآخر. الآن هو باع وانتهى ولم يعد لديه شيء يلزمه بأن يكون «بايع» ودوداً ولطيفاً، فالتظاهر بالود كان ضرورة تفرضها عليه طبيعة العلاقة التبادلية، إلا أنه الآن متحرر من هذه الضرورة، وفي حلّ من أية التزامات يفرضها عليه هذا النوع من العلاقات.

وسيكون هذا النوع من «البايعين ومخلّصين» موجوداً في كل مكان، وذلك إذا ما مضى الفاعلون الاجتماعيون والسياسيون نحو تسليع كل شيء في مجتمع كل «خيراته محدودة». وكان ينبغي أن تحمى الأخلاق الاجتماعية من أن تنزلق إلى حقل «البيع والشراء»، فليس نقيض «البايع ومخلص» هو «البائع الذي لم ينته من بيع بضاعته بعد»، بل نقيضه هو في الدور الذي نجهد من أجل حمايته من الانزلاق في علاقات «البيع والشراء»، وصيانته من أن تجري عليه طبائع «البايع» وأخلاقياته في أي حال كان هذا الأخير.

هذه حكمة هذا التعبير الأولى، أما إذا كان انزلاق هذه العلاقات إلى مجال «البيع والشراء» أمراً لا مفر منه، فعندئذ تأتي حكمة هذا التعبير الثانية، وهي الأكثر عمقاً وبصيرة. فإذا كان المرء يصير «بايع ومخلّص» إذا «خلّص» ونفدت كل بضاعته، فإن حماية المرء من السقوط في هذا المصير هو بضمان استمرار هذه البضاعة ومدّ هذا البائع بالمؤن كلما شارفت بضاعته على النفاد. فإذا كانت أخلاقيات «البايع ومخلّص» من القوة بحيث تخترق كل مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية فضلاً عن التجارية، فإن السبيل الوحيدة لتحصين هذه المجالات ذاتياً ضد هذه الأخلاقيات هو ضمان استمرار البضائع والسلع وعدم نفادها؛ لأن نفاد البضاعة يؤسس لأخلاقيات «البايع ومخلّص»، بل هو الشرط الضروري لهذه الأخلاقيات؛ لأن من لا يملك شيئاً لا يملكه شيء، ومن لا يملكه شيء - من عقل وضمير وقانون ورأس مال مادي أو رمزي وأسرة وعشيرة وأموال يقترفها وتجارة يخشى كسادها ومساكن يرضاها - قد يفعل أي شيء وبلامبالاة، وبمعنى آخر هو أكثر شخص مؤهل لأن يكون «بايع ومخلّص». هذه حكمة ينبغي استيعابها جيداً من قبل الجميع: (الحكومة والنواب والسياسيون والصحافيون ورجال الدين)... وهي حكمة آمن بها فلاسفة كثيرون حين قالوا: «كل من يملك فهو مملوك».

وهنا ينبغي التمييز بين نوعين مختلفين من «البايع ومخلّص»: الأول وهو «البايع ومخلّص» بصورة جذرية مطلقة، فهذا النوع لا يكترث بأية قواعد وضوابط، ولهذا يكون أكثر الناس قدرة على تقويض التراتبيات والتمايزات المصطنعة القائمة في المجتمع، وفضح أخلاق المجاملة التي تغلف علاقات الناس الاجتماعية. وما يؤهله للقيام بهذه المهمة العظيمة هو تحلله من أي روابط والتزامات أو منافع ومكاسب ينتظرها من أحد. أما النوع الثاني فهو «البايع ومخلّص» بصورة جزئية نسبية، وهذا النوع يكون «بايع ومخلّص» في سياق دون سياق، ومع طائفة دون طائفة، ومع تيار دون تيار. وهذه ظاهرة قد تجدها لدى ناشط سياسي أو نائب برلماني أو كاتب صحافي، بحيث تراه «بايع ومخلّص» في سياق معين ومع طائفة محددة وتيار معين، فيتحدث ويصرح ويصدر البيانات ضد هذه الطائفة أو ذاك التيار بجرأة تصل حد الجنون والتهور غير المعقول واللائق، إلا أنه ينقلب شخصية أخرى في سياقات مختلفة ومع طائفة أخرى وتيار آخر. بمعنى أن «البايع ومخلّص» مجرد دور تؤديه هذه الشخصية لأسباب تكتيكية لا استراتيجية كما هو الحال مع «البايع ومخلّص» بصورة جذرية مطلقة. وإذا كان ولابد أن يكون المرء «بايع ومخلّص» فأحرى به أن يكون من النوع الجذري المطلق بحيث يكون أقرب إلى «الفوضويين الأناركيين» ََُّّّىوكْفَف الذين ينفرون نفوراً كلياً من كل نظام وتراتبية وحكومة وسلطة مهما كان شكلها ومصدرها، بل ينظرون إليها على أنها شر مطلق. أوليس هذا المصير أولى من أن يكون المرء «بايع ومخلّص» على مستوى الطائفة أو التيار أو المنطقة، فيؤسس بذلك لتراتبيات وتمايزات وحدود مصطنعة بين الناس؟ ثم هل تقبل أخلاقيات «البايع ومخلّص» الفرز والتجزئة بحيث يكون المرء «بايع ومخلّص» طائفياً أو مناطقياً أو أيديولوجياً؟ ألا يقوض هذا الأخير أخلاقيات «البايع ومخلّص» من الأساس؟ فمادام هو «بايع ومخلّص» من جهة، وخلاف ذلك من جهة أخرى، فهو في نهاية المطاف «بايع مشتري»، بائع ينتظر منافع مجزية لبيعه: مقالاته، تصريحاته، بياناته، مبادراته، مساوماته، هجومه، اعتذاره... إلخ. والحق أن هذا النوع لا يصلح أن يكون «بايع ومخلّص»، النوع الوحيد الذي يستحق، وبامتياز وجدارة، تسمية «البايع ومخلّص» هو «البايع ومخلّص» الجذري/ الراديكالي القريب، كما أسلفنا، من الفوضوي الأناركي؛ لأنه ببساطة لا ينتظر أية منفعة من أية عملية بيع، ولأنه منسجم مع مبدأ «البايع ومخلّص» على طول الخط. فإذا كانت الفوضوية/ الأناركية هي حركة جذرية ضد التراتبية/ الهيراركية، فإن حركة «البايع ومخلّص» الجذرية هي حركة ضد أخلاقيات العيش وفق منطق المنافع المتبادلة «شيلني وأشيلك» كما يقول المثل الشعبي. وبهذا فـ «البايع ومخلّص» إما أن يكون راديكالياً أو لا يكون

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1369 - الإثنين 05 يونيو 2006م الموافق 08 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً