العدد 1377 - الثلثاء 13 يونيو 2006م الموافق 16 جمادى الأولى 1427هـ

الاختراق باسم الديمقراطية!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لم يكن في استطاعة المعهد الجمهوري الأميركي، اختراق القانون واقتحام الساحة السياسية المصرية والعربية، وتحدي الجميع، بفتح فروع له في القاهرة وعواصم عربية أخرى، من دون ترخيص أو تصريح قانوني، لولا أنه كان واثقا من أنه محمي بإرادة رسمية أميركية، تملك الحق في اللعب في الشئون الداخلية لدولنا، من دون مخافة لوم أو مقاومة أو حتى تململ!

وهناك في هذه المسألة التي ترتبط بقضية التطور والإصلاح الديمقراطي، طرفان مشاركان، فالطرف الأميركي أولا، يرى أن من حقه وواجبه - !! - العمل على تحقيق أهدافه، وخصوصا حكاية دفع الدول العربية والإسلامية نحو الإصلاح والتغيير، وان في استطاعته بذل الجهود داخل هذه المجتمعات لاحداث هذا التغيير بطريقته واسلوبه وشعاراته، وبأمواله ورجاله أيضاً، ولذلك فتح الباب واسعاً امام منظمات وجماعات حكومية وغير حكومية، أميركية طبعاً، لتمارس نشاطها في مصر مثلاً، من نوع المعهد الديمقراطي الأميركي، التابع إلى الحزب الديمقراطي، والمعهد الجمهوري التابع إلى الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم، اللذين ينشطان باسم الإصلاح والتطوير الديمقراطي، فضلا عن منظمات مدنية أخرى تستغل أموال المعونة الأميركية، وتعمل في إطار الأهداف ذاتها من دون عوائق!

في حين يرى الطرف المصري أنه مقابل المعونة الأميركية، التي تبلغ , مليار دولار سنوياً معظمها مخصص للشئون العسكرية، فإنه يسمح لنشاط أميركي معين في المجالات الاقتصادية والتمويلية والاجتماعية والثقافية، ثم المجال السياسي المستجد، وخصوصاً منذ العام تحديداً، بعد ما طرح وزير الخارجية الأميركية السابق كولين باول مبادرته المعروفة باسم المشاركة الأميركية الشرق أوسطية، بهدف تغيير وتحديث المجتمعات العربية والإسلامية.

لكن الأزمة الأخيرة، والتي شهدت اغلاق السلطات المصرية المعهد الجمهوري الأميركي، لانه بدأ نشاطه بين الاحزاب والتنظيمات السياسية المصرية، من دون ترخيص رسمي، كشفت في الحقيقة عن عمق استهانة الطرف الأميركي بالنظام والقانون واستباحة السيادة المصرية من جانب، وعن مدى تهاون الطرف المصري في سيادته، بالقدر الذي يشجع الآخرين على استباحتها من جانب آخر.

ولولا الحملة الصحافية التي كشفت المستور في هذا الشأن، لمضى المعهد الجمهوري وغيره من المنظمات الأميركية في العمل والنشاط من دون ترخيص، بلا أية معارضة أو ممانعة، تحت عنوان، من يأكل خبزه يحارب بسيفه، واطعم الفم تستحي العين!

والمعنى واضح أن السياسة الأميركية المهيمنة، وقد قررت التدخل بنفسها وارادتها وادواتها، لتغيير مجتمعاتنا، باسم الإصلاح الديمقراطي، تمارس الآن بعلنية واضحة، اختراق هذه المجتمعات حتى النخاع، والتدخل في الشئون الداخلية حتى الجذور، في ظل تهاون، أو قل تسامح إن شئت، حكومتنا الرشيدة، اعترافاً للصديق الأميركي بمساعداته، أو خوفاً من غضب الحليف الأميركي ولجوئه إلى تقليص أو قطع المعونات السنوية اياها!

والاختراق الأميركي باسم الإصلاح وبحجة زرع الديمقراطية، يأتي ضمن الاستراتيجية الواسعة للهيمنة الأميركية على المنطقة، ويكتسب بالضرورة بريقا وجاذبية شديدة، لدى شعوبنا، لأنه يمس وتراً حساساً، ويستجيب ظاهريا، للشوق الشعبي العارم للديمقراطية، بعد عقود، وربما قرون، من حكم تحالف الفساد والاستبداد، ولذلك وجد ترحيبا في بداية الأمر من قطاعات واسعة، وخصوصاً من المثقفين والنشطاء في مجال الحريات وحقوق الإنسان، وقد رأينا كيف اندفع بعضهم إلى الحضن الأميركي، وقبلوا المساعدات الأميركية. التي كانوا يرفضونها بالأمس باصرار عنيد، فتحولوا إلى انفار في صفوف المتأمركين، ولا اقول العملاء لا سمح الله، الذين يرحبون بالعسل الأميركي، من دون ان يقدروا حجم السم المخلوط به، بحسن نية ساذجة احيانا، وبمعرفة دقيقة واقتناع كامل أحيانا أخرى.

وبعدما غرزت القوة العسكرية الأميركية ارجلها الغليظة في رمالنا وترابنا، وعبر سمائنا ومائنا، رمزاً لهيمنة القوة الامبراطورية، غرزت القوى المدنية والسياسية الأميركية أياديها الناعمة في لحومنا واخترقت العقول والضمائر، تعبيراً عن التبشير بالديمقراطية الجديدة، وفقاً للقيم والمبادئ الأميركية.

وحين وجدت ممانعة أو مماطلة حكومية صريحة أو مستترة، في تلبية الطلب الأميركي بالإصلاح الديمقراطي وفق الوصفة المعلبة الجاهزة، لجأت إلى الاختراق بأدواتها وأموالها هي، متجاوزة بالتحدي الواضح هذه المعارضة أو الممانعة الحكومية، وفارضة عليها شروطها.

ووضح ذلك الاختراق والتدخل في مجالات كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الضغط المستمر لتعديل المناهج الدراسية والبرامج الثقافية في مدارسنا ومعاهدنا العلمية والبحثية، بحجة تنقيتها مما يحض على التطرف والتعصب، «وهذا مطلب وطني تبنته الحركة الوطنية التنويرية منذ أزمان». ومثل تنظيم دورات منظمة على أرض الوطن أو في أميركا، لشباب المهن، مثل الصحافيين والمحامين والمعلمين ونشطاء حقوق الإنسان وكوادر الاحزاب السياسية، بهدف تغيير أفكارهم وإعادة تشكيل عقولهم، ومثل ضخ المساعدات المالية المغرية للجامعات ومراكز البحوث والدراسات بل والشخصيات ذات التأثير الثقافي والاجتماعي، وغير ذلك من مجالات الاختراق الواضح الصريح، الذي سكتت عنه حكوماتنا دهراً، ثم اكتشفت أخيراً مدى خطورته عليها هي قبل خطورته على الوطن كله!

غير أنني أعتقد أن أهم مجالات الاختراق الأميركي باسم الإصلاح الديمقراطي، تركز على المنظومة الثلاثية لتشكيل الوعي وصناعة العقل، وهي منظومة التعليم والثقافة والاعلام، ونذكر أن الإدارة الأميركية تركز منذ الحرب العالمية الثانية، وطوال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي المنهار، ثم في المرحلة التالية، مرحلة الانفراد بالهيمنة الكونية، وخصوصاً بعد الهجمات الدامية على نيويورك وواشنطن في العام . على سلاح الاعلام، عن طريق اصدارات الصحف والمجلات والكتب، وعن طريق الاذاعات الموجهة، وشبكات التلفزيون المؤثرة، ثم عن طريق استغلال الامكانات الهائلة للشبكة «العنكبوتية المعروفة بالانترنت، وقد نشأت تاريخيا في احضان البنتاغون» سلاحا من أسلحة الحرب. وإذا كان الاختراق الأميركي، عن طريق سلاح الإعلام وبقوته المؤثرة، ساهم في تدمير الاتحاد السوفياتي، وفي احداث «تغييرات ديمقراطية» وثورات شعبية في دول ذات حكم شمولي، مثل رومانيا وبلغاريا وبولندا وأوكرانيا ومنطقة البلقان، فلماذا لا تستخدمه أميركا، في دول ذات نظم هشة ومتهمة مثل دولنا.

والحقيقة انها بادرت إلى ذلك، بعد التعديل والتحديث، في مفاهيم وأساليب الاختراق الإعلامي الهائل، مستغلة البيئة المحلية المنغلقة المعادية أصلاً، لحرية الصحافة والإعلام، القابلة للنفاذ والاختراق السهل... وهكذا بدأت الادارة الأميركية الاختراق الكبير، للوصول إلى عقل وقلب وضمير المواطن المصري والعربي، عن طريقين متوازيين، أولهما توجيه الإعلام الأميركي مباشرة، عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف، فأطلقت محطة «سوا» الإذاعية، وشبكة «الحرة» التلفزيونية، ومجلة «هاي» المطبوعة باناقة وبذخ، وقد فشلت كلها حتى الآن في تحقيق الهدف.

أما الطريق الثاني. فهو الأخطر، ونعني اختراق الإعلام الداخلي والمحلي مباشرة، سواء باصدار صحف وإذاعات وتلفزيونات جديدة، ممولة أميركيا من وراء حجاب وتحت غطاء محلي، أو باختراق المؤسسات الإعلامية الوطنية مباشرة بواسطة التمويل والتحديث التكنولوجي (راجع كتابنا «تزييف الوعي» الصادر في العام الماضي...).

والخلاصة أننا أصبحنا الآ في مواجهة هجوم إعلامي، فكري أميركي، تحمله لنا صحف وشبكات إذاعية وتلفزيونية كثيرة. انتشرت فيها فضائيات بلا هوية، «وهناك الآن فضائية محلية وإقليمية تغطي المنطقة العربية. فضلا عن تلك الدولية» وعشرات من الصحف الجديدة، تكتب بالعربية، وتحمل أفكارا أميركية. بل وتدافع عن المصالح والاستراتيجيات الأميركية مباشرة أو بطرق غير مباشرة.

باسم حرية الصحافة والإعلام، وحرية الرأي والتعبير، بل باسم التحديث والتطوير والإصلاح الديمقراطي، اختلطت المفاهيم وتدفقت الأفكار، فزاغت الأبصار واهتزت العقول، وأصبح المواطن العادي أسير حيرة نادرة، لا يعرف بالضبط اين الحقيقة من الكذب، الديمقراطية من الدكتاتورية، الفساد من الإصلاح، الوطنية من الخيانة، لأن صحفاً جديدة وتلفزيونات عملاقة، تتحدى الأوضاع الجامدة المتحجرة، التي حكمت طويلا بقهر الحرية ومصادرة الآراء ونفي الآخر، ومعاداة الإصلاح الوطني الحقيقي الذي طالما طالبنا به!

وفي عالم مفتوح على كل الاتجاهات، تتعدد فيه مصادر المعرفة والمعلومات، وتتوالد فيه وسائل الإعلام والصحافة بقوة قاهرة ومن دون حدود أو قيود، لم يعد ممكنا لحكوماتنا الرشيدة الاستمرار في سياساتها العقيمة، القائمة على معاداة الحرية، وخصوصاً حرية الصحافة والإعلام، وقد كان اجدر بها استغلال هذه الثورة الإعلامية المعلوماتية المعرفية العالمية، لتحديث مجتمعاتنا، وإصلاح أوضاعها، وممارسة الديمقراطية الحقيقية، بدلا من ترك الساحة للاختراق الإعلامي الأميركي الهائل، الذي يغري الناس بالإبهار وتدفق الاخبار وتعدد الآراء، والادعاء بأنه يحارب الفساد والاستبداد ويسعى إلى فرض الديمقراطية!

خير الكلام... حكمة:

الكلمة الحرة سلطان، أقوى من كل كلام السلطان

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1377 - الثلثاء 13 يونيو 2006م الموافق 16 جمادى الأولى 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً