شاركت عضوة منتديات مجموعة المشاغبين (نور المنتدى) بهذا الموضوع في منتداها
احذر! هنالك غيمة مطر!
ما بالك يا صديقي أتخاف من غيمة مطر؟
لا... ولكني احذرك منها... انظر إنها سوداء اللون...
آه يا صديقي إني أحب هذه الغيوم وأحب المطر...
نعم... لكني لا أحب هذه الغيوم... وسأكرر احذر إنها قادمة... انتظر... ماذا دهاك!! إني لا أرى أية غيمة سوداء هنا... بلى إني أراها فوق رأسك وأرى كل المطر يهطل علينا بغزارة... آه دعك من مزحك كم تعرف بأني أحمل هماً أتمناه بأن يزول بسرعة البرق... إني لا أمزح... ياااه ها قد ذكرت البرق أرأيت سيزول همك قريباً... كم أنا حزين وأظن بأني ودعت الابتسامة من قلبي... دعنا نجلس قليلاً... مهما جلست فالغيمة تلاحقنا... اعلم بأنك لا تراها ولكني أراها... يا صاحبي إن لكل شخص منا غيوم سوداء في حياته... فلن تبتعد عنك ما لم تواجهاها... فكن قوياً وواجه غيومك وسترحل عنك... أتذكر زنك ذكرت البرق إذاً هيا برقك هو سلاح قوتك والمطر غيمتك...
ضمن سلسلة الحلقات التي كتبها عبدالشهيد الثور عن تجربته في السجن أثناء انتفاضة التسعينات التي نشرها على عدد من المواقع الالكترونية، منها موقع «الملاحة» كان ما يأتي وجبات الطعام تأتينا بلا طعم، لا تعبر أفواهنا ولا تتذوقها... يوم الأربعاء وجبة السمك، سمك لو رأيته ما حسبته إلا حوت يوشع بن نون الذي نسيه عند الصخرة، أسماك مجمدة أذهب التجميد فوائدها... ولكن ما الضير، سيتناولها أولئك التائقون إلى لقمة الطعام... سمك مقلي ملتو على نفسه لكل منا صحن رز وسمكة تأنفها حتى قطط الشوارع.
في يوم الجمعة يأتينا الغداء مصحوباً بفخذ من الدجاج ولربما صاحبته ورقة يتيمة من الخس لكل منا... أما باقي الأيام فلا غير البرياني... برياني يطبخه الجنائيون... يصطحبون معهم أحد الجنائيين الأجانب، يعد الوجبات في الصحون، يصطحبونه أجنبيا كي لا نظفر منه بكلمة ود تكشف كرب الغربة.
عندما يقدمون وجبة الغداء ويغلقون الباب علينا وعلى وجباتنا، يحدق الأستاذ «ع» طويلا في الطعام... يتأفف من رداءة الطعام... أخاطبه قائلاً: كل يا أستاذ «العيش زين»... تحملق عيناه في وينفجر مغضباً «لا زنت» لعلك تقف إلى صفهم أيضا... وينفجر باقي الإخوان ضاحكين. أخيرا يستجيب الأستاذ ويأكل، إذ لا مناص من الأكل للبقاء على قيد الحياة كما يقول لنا بين الوجبة والوجبة ووجبات أخرى.
وجبات سمر واستزادة من المعرفة. (ج) شاب بسيط المدارك والفهم، بريء السليقة، سليم الفطرة... أحدق فيه أحياناً وأسرح مفكراً ما عسى هذا أن يكون قد جنى ليؤتي به إلى معتقل مرير. لم يتمكن من إتمام دراسته لصعوبة الظروف. لديه عائلة عليه أن يعولها. استجاب (ج) لطلبنا في تعليمه أبجدية العربية.
رسم الأستاذ الحروف العربية فوق الجدار بقطعة الألمنيوم وابتدأ المشوار من الصفر... كان من الصعب على (ج) حفظ الأحرف وتهجئتها... بذلنا جهداً واسعاً لإيصال المعلومات إليه... ولكن استيعابه لم يكن قابلاً، كان لا يستطيع التمييز بين الجيم والخاء ولا يفرق بين القاف والفاء.
كانت وسيلة الدخول به للقراءة هي قراءة القرآن الكريم... إذ لا وسيلة سواها، ولو وجدت سواها لما كانت خيراً منها... أعطينا (ج) مصحفاً فتحناه له على قصار السور... راح (ج) يقرأ الكلمة في تأتأة وتوقف بين الحرف والثاني، راح يقرأ سورة الجمعة، حتى إذا وصل إلى «وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها» قرأها ولدى وصوله... أو لهوا... قرأ... إن... إن... انقضوا عليها... لم يكفه قلب الفاء إلى قاف وإنما حول كلمة «إليها» إلى كلمة «عليها»... لقد كان جناساً جميلاً لو لا أنه كتاب الله ولا ينبغي العبث بآياته... في الليلة التالية أعطيناه جزء عم، وعند وصوله إلى «إن الفجار لفي جحيم» قرأ «إن الفخار».
يقولون: إذا أردت أن تعرف أحدا ما فسافر معه تقع على حقيقة ذاته... هذا سفر أيضا، سفر المجبرين المكرهين بلا خيار سفر لا تختار فيه وقتا ولا مكانا... ولا تختار فيه صاحبا ولا قريناً... بهذا المكان تعيش اللحظات كلها برفقة أصحاب المحنة... تأكل ويأكلون... تصبر ويصبرون.
في المعتقل أيضا تكشف معادن الرجال، الصابرون يتألقون بشموخهم، والجازعون يقللون من عزيمتهم... في المعتقل تنكشف لك الأيدي الرحيمة المعطاءة، إذ تعاش الأوقات بحلوها ومرها... وتتقاسم اللحظات بنعيمها وجحيمها، في المعتقل حياة أخرى تجبرك على التعاون... حياة لاتستطيع التنصل من واجباتها... تحمل الأذى، وكما يقول الإمام الكاظم (ع): «ليس حسن الجوار كف الأذي، وإنما حسن الجوار تحمل الأذى».
هناك تصبح وجها لوجه أمام خصال الآخرين، خصال معراة بأكملها مهما اجتهد صاحبها في إخفاء بعضها لا يفلح... الوقت المترامي الأطراف كالصحراء كفيل بكشف كل خافية من السلوك.
يحكى عن إحدى الزنزانات، عمن طالته القمعة الأمنية بشباكها من دون ذنب صدر منه، أنه انتصب في النافذة العليا يتأمل في السماء طويلا، ويعتصره الحنين للإبحار في قاربه... ولكن أنى له ذلك والقضبان تقف دونه والبحر... راح يبعث بنظرة للبحر وتتجدد في صدره لواعج الشوق لملاقاة البحر، ونظرة ملتهبة للسماء... وبقلب نازف تتسع فتحتا جفنيه في السماء... أخرج كفه نحو الفضاء المديد... رفعها وراح يخاطب إلهه... رباه ألا تطلق سراحي؟... رباه أليس هو امتحان تختبرني به؟! بلى هو امتحان!... وأنا سقطت في الامتحان... رباه أطلق سراحي ولن أخبر أحدا أني نجحت في امتحانك.
بلى هو امتحان للصابر بالجازع، وامتحان للجازع في نفسه، لذلك كان الجزع لصاحب المصيبة مصيبتان... صاحب الرسالة لا يجزع ولا يرجع، ففي نصب عينيه هدف وغاية ينشدها.
وفي المعتقل تعود النفس لذاتها تفتش عما انكسر لتبدأ في إصلاحه... أي كسر؟ وأي إصلاح؟... الكسر الذي يمكن اصلاحه بالتوبة والندم... هناك تصفو مرآة النفس فلا يكدر صفوها غبش ولا يرنق صفاءها تمويه.
ندم أحدهم على ما فرط في جنب الله... حادثته حين كنت لا أراه ولا يراني، أبدى تحسره على ما قصر في ماضيه... الندم ينخر في أعصابه... شبهت له الماضي بطبخة حاول صنعها، لكنها فسدت ولم يتقنها... عليه الآن أن يستأنف العمل ويبدأ في صنع طبخة جديدة يستفيد فيها من أخطاء الطبخة السابقة... إلخ.... على أنه لايزال يفكر في الطبخة الماضية، نبهته إلى الاحتمال الكبير في فساد الطبخة الثانية حال انشغاله عنها والتفكير في الأولى.
للدعاء تأثير السحر في النفس... استطعت تدوين بعض الأدعية من صدور الحافظين لها ومنها دعاء الإمام السجاد (ع) في مناجاة التائبين «إلهي ظلل على ذنوبي غمام رحمتك وأرسل على عيوبي سحاب رأفتك»... هنالك كانت النفوس تلجأ لحصن حصين... تتحصن بجبار السماوات والأرض، فمن القادر على التعرض لها وهي في عنايته... وإنما عليها الصبر والاستعداد لملاقاة حب الله... الله الذي إذا أحب عبدا ابتلاه، وأي ابتلاء كالسجن، بلاء في الروح والجسد والأهل والوطن... لهذا لما أحب الله يوسف (ع) أعطاه الجمال، وابتلاه بمحنة السجن نتيجة لذلك الجمال..
العدد 1354 - الأحد 21 مايو 2006م الموافق 22 ربيع الثاني 1427هـ